التعايش مع اليمن كما هو وليس كما يريده الآخرون

صحيفة العرب اللندنية
منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وشمال اليمن يحاول مرة بعد أخرى الخروج من دولة القبيلة إلى الدولة الوطنية، ومع تعثر المحاولات يترسخ أكثر النفوذ القبلي لارتباطه بالمذهب، وكذلك للجذور التاريخية التي تحول بين نجاح المحاولات لتغيير النمط السياسي في بلاد لها أعراقها وتقاليدها وأعرافها وسماتها الطبيعية التي شكلت نمطية الحياة، ولعلها هي المتسببة في تعثر عملية الانتقال السياسية. ورغم أن اليمن شكل أول نظام سياسي عام 1918 بقيام المملكة اليمنية المتوكلية، على يد الإمام حميد الدين بعد خروج العثمانيين، إلا أن الانتقال السياسي لم يكتمل.
كل ما حدث بين 1948 و1962 كان انقلابات داخل البيت الزيدي، لم تستطع حمل البلاد اليمانية، وإن تأطرت في الجمهورية العربية اليمنية، التي زاوجت بين جناحي الصراع الملكي والجمهوري، بعد سنوات مريرة من حرب حاول فيها اليمن التغيير السياسي، وانتهت المحاولة الأكثر جرأة تاريخياً بالتراضي على لبس عباءة الجمهورية والإبقاء على الإمامة في موقعها داخل البيت الزيدي، وكما يوصف بأنه المركز المقدس أي أنه النواة الصلبة للحكم.
في العام 2011 خاض اليمن صراعاً على السلطة انتهى بانقلاب حوثي، هذا ما يتداول في الإعلام، وعلى إثره اندلعت حرب لاستعادة الشرعية بينما في الواقع هناك محاولة أخرى كانت تهدف إلى الخروج من الدولة القبلية لكنها تعثرت بانقلاب الحوثي. العشرية اليمنية بكل ما حملت من الفظائع كانت فرصة ضائعة للتحول والانتقال الذي فشل برغم التضحيات الجسيمة، والتي حاول فيها الجوار العربي مساعدة اليمنيين لكنه اضطر للإقرار بصعوبة العملية، فاليمنيون مازالوا عالقين في القرن التاسع عشر وليسوا مستعدين للانتقال السياسي.
اليمن عَصيّ على التغيير، وهو ما دفع وسيدفع المنطقة والعالم إلى التعايش مع هذه البلاد بطبيعتها، بعد أن يمنح الجنوب مساره السياسي ليشكل إطاره الوطني، ويستعيد ذاته وفق استقلاله الأول في الثلاثين من نوفمبر 1967. هذا المعطى هو ناتج للواقعية السياسية التي تخضع في هذا التوقيت للمراجعة، واتخاذ ما يمكن أن يضمن الدرجة الأعلى من تحقيق هدف الأمن والاستقرار، الذي يمكن أن يتعايش معه الإقليم والعالم، فليس من المنطق الإصرار على تغيير ما لا يمكن تغييره في شمال اليمن.
التحدي سيكون قبل التعايش مع اليمن في تقليص النفوذ الإيراني، والمحافظة بالقدر الممكن على وحدة الجمهورية العربية اليمنية (1962 – 1990) فثمة خشية حقيقية من التفكك وسيطرة صنعاء على أجزاء حيوية من الشريط الساحلي المتضمن لميناء الحديدة الحيوي، وإخضاع اليمن الأسفل (تعز وإب) إلى خزان بشري ملغوم بالجوعى في ظل الاستقواء التاريخي للهضبة الزيدية على حساب الشوافع، في امتداد لنفوذ نشأ مع التكوين المذهبي لشمال اليمن منذ القرن الثالث الهجري الموافق للتاسع الميلادي.
التجرد نحو الواقعية السياسية يدفع دفعاً ناحية تحييد الجنوب والاستثمار فيه سياسياً واقتصادياً، واشتماله ضمن المنظومة الخليجية على اعتباره امتدادا صحيحا لا اعتلال فيه، ويمكن ترميم ما أصابه من أضرار جسيمة في العقود الثلاثة الماضية. دون التفكير الواقعي لا يمكن الوصول إلى قرارات صحيحة، فالعقلانية ترتكز على ضرورة وحتمية فك ارتباط اليمن والعودة إلى ما قبل العام 1990 فلا بد من التعايش مع شمال يمني نافر أو مارق، كما تتعايش اليابان وكوريا الجنوبية مع كوريا الشمالية التي توقظهم كل عدة أيام على تجاربها الصاروخية العابرة للقارات، فاليمن لن يتشكل حسب ما يتمناه جواره، ولا حتى حسب تطلعات العالم فهذه البلاد لها طباعها وسلوكها.
عملية الانتقال السياسي من عبدربه منصور هادي إلى المجلس الرئاسي تظل إجراء مهما في هيكلة الشرعية اليمنية، لكنها لا تضمن استكمال الانتقال المكتمل كما يتخيله الحالمون باليمن السعيد. الخطوة السياسية تأخرت بعد اختطاف الشرعية من قبل فصيل مؤدلج (الإخوان) بعد إسقاطهم خالد بحاح واستئثارهم بالسلطة، ومحاولتهم تحويل المحافظات المحررة من اليمن إلى وطن إخواني بديل، بعد سقوطهم في مصر وتونس والمغرب والسودان، فكانوا قد رموا بثقلهم في جنوب اليمن ليكون خياراً لما تبقّى من وهم خلافتهم ودولتهم المزعومة.
هيكلة الشرعية لا تعني شيئاً غير إصلاح خطأ وترميم ما تحطم في أبريل 2016، وعليه لا داعي للكثير من الأمنيات الحالمة، فالواقع ليس ما يريده المحيطون المحبون، هناك أرض فيها شعبان أحدهما أنجز ما عليه، وآخر مازال تائهاً، فلا داعي للخلط بين أمنيات ووقائع، فالتطلع للقادم يحتاج نظرة صحيحة وفاحصة لحالة راهنة لم تتغير مهما كانت عمليات التجميل التي أديرت وتدار لتغطية الحقيقة، وهذا ما يدفع باتجاه القراءة لمستقبل اليمن كما هو وليس كما يريده المخيال الحالم.
اليمنيون لديهم مورثاتهم وتقاليدهم التي صنعت تزاوج الملكية بالجمهورية، وهي التي يمكن أن تتكرر في شمال اليمن مجدداً، فمن المتوقع أن تنسجم المكونات القبلية وتكون مسلكاً سياسياً يتواءم مع مقتضيات الضرورة، التي ستحدث تزاوجاً آخر يذهب في هدوء نسبي لعقد أو أكثر. الخصائص المجتمعية قادرة على صناعة ما لا يمكن تفسيره منطقياً فهذه تركيبات وخصائص يجب النظر إليها باحترام.
منذ 1962 شمالاً و1967 جنوباً لم يعرف الشطران عملية انتقال سياسية سلمية، فكل الذين تولوا منصب الرئاسة إما تمت تصفيتهم جسدياً أو أنهم نفوا إلى خارج بلادهم. هذه واحدة من حقائق السياسية كما هي حقيقة متلازمة الحوار والحرب، ففي كلا الشطرين الجنوبي والشمالي تتكرر المؤتمرات للحوار وتتلوها حروب دامية، فهذه من التقاليد العريقة حتى أن اليمنيين المعاصرين باتوا يبحثون عن راقص على رؤوس الثعابين يمكن أن يكرر تجربة علي عبدالله صالح الذي انتهت رقصته بلدغة أودت بحياته.
لا مناص من التعايش مع شمال يمني سيحاول التغيير والانتقال إلى الدولة الوطنية على امتداد القرن الحادي والعشرين، وحتى ينجح الشمال من المهم احتواء الجنوب والاقتراب منه ومنحه الفرصة ليستعيد دولته الوطنية، فالتعايش مع الواقع حل أفضل من اختلاق وهم دولة غير موجودة، فهي قانوناً تحت الفصل السابع وتشريعاً هي دولة فاشلة. جملة الحقائق هي الوقائع التي يستشرف منها وليس الأمنيات والآمال، فاليمن يمنان يمن معتل ويمن جنوبي. صحيح يمكنه خلال ثلاثة إلى خمسة أعوام أن يكون دولة مكتملة النجاح الاقتصادي؛ ففكرة التعايش لا تعني تسليم شمال اليمن إلى أحد ما، فعلى أبناء اليمن أنفسهم استعادة مذهبهم الزيدي وتطهيره ممّا علق به، كما عليهم مواصلة محاولات الانتقال إلى الدولة الوطنية. وحتى تصلوا إلى ذلك تعايشوا مع اليمن كما هو، وليس كما يريده خيالكم؛ يمن سعيد لم يكن يوماً كذلك، إلا في مخيالكم الواسع.