لغز عودة الحريري ثلاثي الأبعاد.. لقاء قبرص ومقاس الحذاء وإثراء القاموس اللغوي

أرم نيوز-متابعات

 

حفلت المنابر الإعلامية بالكثير من العناوين السياسية المتوترة في قراءتها لحيثيات عودة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري إلى بيروت فجر الأربعاء، وما تبعها من مفاجآت تتعلق بالاستقالة، أو عدم الاستقالة، وما يعنيه ذلك أو موقعه في مربع الكلمات اللبنانية المتقاطعة.

ولا يحيل كل ذلك اللغط الإعلامي الذي صاحب العودة حسب موقع فوكس VOX الأمريكي، إلا إلى مسلسل شعبوي طويل، له في الأعراف اللبنانية مدارس سياسية، لكن التوقف على محطات الثمانية والأربعين ساعة الأخيرة، يحيل إلى كثير من التفاصيل الدقيقة، والمهمة في “الشو” الإعلامي الذي صاحب استقالة الحريري، قبل إعلان “التريث”.

قاموس اتصالي ثري بالإيحاءات

فعلى جوانب البيانات والمهرجان والحوار والتغريدات المحكومة بعدد من الأحرف والكلمات، والتي احتشد بها فضاء بيروت وشبكتها العنكبوتية طوال يوم أمس الأربعاء، الذي بدأ مبكراً وانتهى متأخراً، ترسّبت في ذاكرة اللبنانيين والعرب جملة من اللقطات المصورة والمحكية، أثرت “القاموس الاتصالي” الذي أصبح في الأدبيات السياسية العربية تاريخًا طويلًا موصولًا بالأزمات، من أيام الحرب العالمية الأولى مروراً بحروب الـ 48، و 56، و 67، و 73… وحتى معركة استقالة الحريري التي لم تضع أوزارها بعد، فاللغة العربية “حمّالة للمعاني” ويستطيع السياسيون السباحة في فجواتها.

ماذا حدث في قبرص

قبل أن يصل بيروت عائداً من القاهرة وقبلها باريس وقبلها الرياض، توقف الحريري في نيقوسيا يوم الثلاثاء، ولأن قبرص لا ناقة فيها ولا جمل يتعشبان من خضرة لبنان، فقد تحدث إعلام حزب الله (جريدة الأخبار تحديدًا) عن لقاء سري في قبرص جمع الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وكان الحريري يعرف به، كما تحدثت الأخبار عن ما وصفته بأنه دور سري لأمريكا في عودة الرجل لبلده.

بعض الرادارات الإعلامية هنا في بيروت، كانت يوم الثلاثاء التقطت أن الرجل ذاهب إلى قبرص لبحث قضايا حقول الغاز البحرية التي تتشابك في المياه الإقليمية للبنان وقبرص، فقبل الاستقالة كانت حكومة الحريري أقّرت موضوع امتيازات التنقيب عن النفط والغاز في مياهها على البحر المتوسط، وهو موضوع معروف أنه منجم للإشاعات المتصلة بالثروات التي تنتظر الترسيم الجغرافي، ولذلك وفي اليوم السابق لوصول الحريري لبيروت، تأكد الكثيرون أن الرجل باق في الحكومة والبلد، بدليل بحثه لموضوع الغاز، ولم يتفاجأوا بالذي حصل في اليوم التالي، الأربعاء.

مقاس حذائه

يوم أمس، وأثناء لقاء رؤساء السلطات في لبنان، الجمهورية والنيابية والحكومية، وقبلها وقوفهم للسلام على المهنئين بعيد الاستقلال، ظهرت صورة للحريري وهو ينتعل حذاءً اكبر من مقاس رجله، كانت الصورة على التلفزيونات لافتة، جرى تداولها بعد ذلك على المواقع الإخبارية والسوشيال ميديا، مرفوقة بكل ما يخطر على البال من تفسيرات صحية وبروتوكولية و”بالنهاية” سياسية.

إشارات لغوية

أما القاموس اللغوي للأزمات السياسية، فقد أثراه الحريري يوم الأربعاء بعدة تعابير لغوية “حّمالة للمعاني المختلفة” كان استحدثه في بيان استقالته يوم الرابع من الشهر الحالي، إذ كرّر في بيان الاستقالة المتلفز، تعبير “النأي بالنفس” حوالي 12 مرة، وما زال الناس يسمعون ذلك التعبير حتى ظنوا أن فيه ما هو أكثر من “النأي بالنفس” التي تعني ببساطة الابتعاد عن المشاكل أو الحياد.

وفي بيان الاستقالة استخدم الحريري تعبيراً لغوياً فصيحاً “حصيفاً” وهو “الصدمة الإيجابية”، التي لها في علم النفس مضامينها وإيحاءاتها المعروفة التي تستدعي متابعة العلاج بالصدمة (أياً كان نوعها كهربائية أو لفظية أو عاطفية) حتى الوصول إلى التعافي.

ولذلك كانت صدمة الاستقالة ثم صدمة التريث بها، البعض سمّى التريث  تراجعًا والبعض الآخر، ومنه موقع “سليت” الإخباري الأمريكي سمّاه “اللا استقالة”.

وباللغة الشعبية لحيّ البسطة البيروتي، استفاض الحريري، وأخذ راحته بتكرار تعبيرين لغويين، “باق معكم”، و “عروبة لبنان” إلى الحد الذي جعل الصحفيين يتنبهون إلى أن في تكرار الشائع العادي ما يشي بأنه شيء غير عادي أو رسالة ضمنية، فتكرار عروبة لبنان يعني -ضِمْنًا- مواجهة التمدد الايراني.. لكن بوقع خفيف.

الفرق بين عرضتُ وقدمتُ

وقبل ذلك كله، كان الحريري حريصاً جداً في بيانه الذي توج اللقاء في القصر الجمهوري، على أن يتقن نطق كلمة “التريّث” في الاستقالة، وكذلك كان حريصاً جداً في قراءة تعبير “عرضتُ” الاستقالة على الرئيس، وهو التعبير الذي يعرف المستشارون للرؤساء وكاتبو خطاباتهم أنه يعني الكثير للتمييز ما بين عرض الاستقالة أي: الحديث فيها، وما بين تقديمها.

وما بين عرض الاستقالة والتريث بها، تفاوتت القراءات السياسية لمختلف “الأفرقاء”… والأفرقاء تعبير سياسي لبناني بديل لكلمة الفرقاء