اداب وثقافـة| الرثـاء في الشعـر العربـي

عدن الحدث/ متابعات


الرثاء:

أحد فنون الشعر العربي البارزة، بل إِنه ليتصدرها من حيث صدق التجربة وحرارة التعبير ودقة التصوير. ويحتفظ أدبنا العربي بتراث ضخم من المراثي منذ الجاهلية إِلى يومنا الحاضر؛ وينقسم هذا التراث إِلى ثلاثة ألوان، هي: الندب، والتأبين، والعزاء.

الندب:

فهو بكاء النفس ساعة الاحتضار وبكاء الأهل والأقارب، وكل من ينزل منزلة النفس والأهل من الأحباء وأخوة الفكر والاتجاه والمشرب، بل يمتد إِلى رثاء العشيرة والوطن والدولة حين تدول أو تصاب بمحنة من المحن القاصمة المحزنة.

التأبين:

فليس بنواح ولا نشيج كالندب، بل هو أقرب إِلى تعداد الخصال وإِزجاء الثناء، إِنه تنويه وإِشادة بشخصية لامعة، أو عزيز ذي منزلة في عشيرته أو مجتمعه، وهو تعبير عن حزن الجماعة على الفقيد أكثر منه تعبيرًا فرديًا عن ذلك.

العزاء:

هو في مرتبة عقلية فوق مرتبة التأبين؛ إِذ هو نفاذ إِلى ما وراء ظاهرة الموت وانتقال الراحل، وتأمل فكري في حقيقة الحياة والموت، تأمل ينطلق إِلى آفاق فلسفية عميقة في معاني الوجود والعدم والخلود.

هذه الألوان الثلاثة من فن الرثاء لا تفصلها حدود فاصلة، ولا يقوم منها لون دون الاستناد إِلى الآخر والاتسام ببعض خصائصه، ولكن إِذا غلب منها لون أعطى العمل الفني طابعه العام، ووسمه بميسمه الخاص. على أن كثيرًا ما تتداخل تلك الألوان ضمن عمل أدبي واحد، لاسيما في رثاء قواعد الملك والدول الزاهرة والعهود المجيدة من تواريخ الأمة.

إِن ما انتهى إِلينا من تراث المراثي كثير جدًا يمثل مختلف العصور الأدبية ومختلف الألوان والاتجاهات الفكرية، وإِن أقدم تلك المراثي مما أبدعت قرائح الجاهليين، وصلتنا ناضجة محكمة، قد تجاوزت طفولتها ومراحل محاولاتها البدائية، وصارت ذات قوالب وصيغ محددة، وأساليب وصور معروفة، ثم لما تطورت مختلف فنون الشعر نتيجة مجيء الإِسلام وما تفرع عنه خلال الأجيال الطويلة المتعاقبة من تيارات فكرية ومذهبية وسياسية وأدبية...

تطورت صور الرثاء ونماذجه وتعددت دواعيه وبواعثه؛ فإِذا جئنا نوازن بين عناصر المرثية في نماذج تمثل تدرج الزمن ونمو العقل وتعقد الحياة، خرجنا بحقائق يمكن رصدها في رسم بياني، بدايته في العصر الجاهلي ونهايته في عصرنا الحاضر، وبين الطرفين خط يأخذ في الارتفاع التدريجي فيكون أعلاه عندنا اليوم، غير أن هذا الرسم نسبي إِلى حد كبير، ولابد من وجود تذبذبات ومنعرجات فيه.

أي أن في كل عصر كثيرًا من النماذج التي لا تمثل عصرها، بل تتخلف عنه أحيانًا قرونًا إِلى الخلف، ففي عصرنا اليوم بعض من الشعراء وقوافل من النظّامين لا يزالون يصوغون قصائدهم بأسلوب عباسي، بل بأسلوب أقدم من ذلك في بعض الأحيان.

وقد جمع لويس شيخو الأديب اللبناني الراحل كتابًا ضمنه ما فاضت به قرائح كثيرات في هذا المجال، وسماه (مراثي شواعر العرب).

ونقصر حديثنا هنا عن اللون الأول وهو الندب

الندب:

الندب هو النواح والبكاء على الميت بالعبارات المشجية، والألفاظ المحزنة التي تهز القلوب وترسل الدموع وتبعث العبرات والزفرات، ويبدو أنه أقدم صور الرثاء، وكانت بدايته أرجازًا وقطعًا تؤلفها النسوة حين يندبن القتلى، ثم تطورت القطع إِلى قصائد.

ويشمل هذا اللون من الرثاء ندب النفس ساعة دنو الأجل، وندب الأزواج والأبناء والإِخوة والأخوات ومختلف ذوي الأرحام والأقرباء والأعزاء من الأصدقاء، وكذلك يشمل بكاء الشعراء شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وخلفاءه وأهل بيته، كما يشمل رثاء الحواضر والدول والأوطان.

أما بكاء الشاعر نفسه، فيقال إِن أقدم من فعل ذلك شاعر جاهلي هو يزيد بن خذَّاق؛ يقول من قصيدة له:

هل للفتى من بنات الدهر من واق

أم هل له من حِمَام الموت من راق

قد رجَّلوني وما بالشَّعْر من شَعَثٍ

وألبسوني ثيابًا غير أخلاق

وأرسلوا فتية من خيرهم حَسَبًا

ليسندوا في ضريح القبر أطباقي

وتعظم المصيبة على الشاعر الذي يموت غريبًا عن أهله ووطنه، ومن أروع من صوَّر هذا المعنى وما يتصل به الشاعر المجاهد مالك بن الريب الذي كان يغزو في خراسان، فلما حضرته الوفاة ناح على نفسه بألم وفجيعة، يقول من قصيدة طويلة:

ألا ليت شعري هل أبيتَنَّ ليلة

بجنب الغَضَا أُزْجِى القِلاص النَّواجيا

لقد كان في أهل الغَضَا، لو دنا الغضا

مزارٌ، ولكن الغضا ليس دانيا

تفقدتُ من يبكي عليَّ فلم أَجِدْ

سوى السيف والرمح الرّدَينى باكِيًا

وهي مرثية طويلة، أبرز ما فيها هذه الخواطر الممزقة بين الحنين إِلى أهله بمنطقة الغضا والرمل، وبين سكرات الموت وفزع صاحبيه من حوله ومخاطبته إِياهما تارة والذهول عنهما تارة أخرى، وأعجب ما في هذه المرثية أنها لا تفيدك أن صاحبها كان غازيًا في سبيل الله من بين الفاتحين لتلك الآفاق، إِذ لا ذكر في القصيدة لأي معنى إِسلامي يذكر!، وهي لذلك لم تخرج في أسلوبها وروحها وصورها النفسية عن أية قصيدة جاهلية أخرى.

وأما رثاء الزوج فنماذجه كثيرة لاسيما في العصر الجاهلي، ومن أجود المراثي في الأزواج، شعر جليلة بنت مرة في كليب زوجها، حين قتله أخوها جساس، فقد كان موقفها حساسًا لوقوعها بين نارين: نار زوجها القتيل ونار أخيها القاتل .. تقول في ذلك:

يا قتيلا قَوَّضَ الدهر به

سقف بيتي جميعًا مِنْ عَلِ

ورماني فقدُه من كَثَبٍ

رَمْيَةَ المصمى به المستأْصَلِ

هدم البيت الذي استحدثه

وسعى في هدم بيتي الأولِ

مسَّني فَقْدُ كُلَيْبٍ بلظى

مِنْ ورائي ولظى مستقبِلي

ليس مَنْ يبكي ليومَيْه كمن

إِنما يبكي ليوم ينجلي

يقول ابن رشيق: “فانظر ... ما أشجى لفظها، وأظهر الفجيعة فيه !! وكيف يثير الأشجان، ويقدح شرر النيران”.

وحدث الأصمعي أنه رأى في البادية امرأة ألصقت خدها بقبر زوجها وهي تبكي وتقول:

خدي تقيك خشونة اللحد

وقليلة لك سيدي خدي

يا ساكن القبر الذي بوفاته

عميت علي مسالك الرشد

اسمع أبثك علتي فلعلني

أطفي بذلك حرقة الوجد

أما ندب الإِخوة والأخوات: وهو كثير، فأشهر من بكت واستبكت ولاسيما في العصر الجاهلي الخنساء، وهي تماضر بنت عمرو السلمية التي خلدت ذكرى أخويها معاوية وصخر، فأعولت بقصائد في رثاء ثانيهما وهو صخر بما لم تبكه أخت تقريبًا في تاريخ الرثاء؛ ومما قالته فيه قولها:

قذًى بعينك أم بالعين عوار

أم ذرَّفت أن خلت من أهلها الدار

كأن عيني لذكراه إِذا خطرت

فيض يسيل على الخدين مدرار

فالعين تبكي على صخر وحق لها

ودونه من جديد الأرض أستار

تبكي خناس وما تنفك ما عمرت

لها عليه رنين وهي مقتار

بكاء وآلهة ضلت أليفتها

لها حنينان: إِصغار وإِكبار

ترعى إِذا نسيت حتى إِذا ادكرت

فإِنما هي إِقبال وإِدبار

وإِن صخرًا لتأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

وهي قصيدة طويلة، كلها لوعة وحرقة وصدق.

وننتقل إِلى صورة أخرى من صور بكاء الأهل هي رثاء الأبناء. وفي أدبنا العربي مراث كثيرة فيهم، ومن الشعراء والشواعر الذين أبدعوا في رثاء الأبناء، على تفاوت في التصوير والرؤية الفنية والقدرة على توجيه العاطفة في حال الفجيعة ونزول القضاء، لنلتقي بشاعر فنان هو ابن الرومي في رثائه لابنه الأوسط محمد الذي مات منزوفًا بين يديه. يقول من قصيدة دامية دامعة:

توخى حمام الموت أَوْسَط صبيتي

فلِلَّه، كيف اختار واسطة العِقْدِ

لقد قلَّ بين المهد واللحد لَبْثُه

فلم ينس عهد المهد إِذْ ضُمَّ في اللحد

ألحَّ عليه النَّزْف حتى أحاله

إِلى صُفْرَة الجادى عن حمرة الوَرْدِ

وظل على الأيدي تساقط نفسه

ويذوى كما يذوى القضيب من الرَّنْد

فيالك من نفس تساقطُ أنفسًا

تساقط دُرٍّ من نظام بلا عِقْدِ

أريحانة العينين والأنف والحشا

ألا ليت شعري هل تغيَّرت عن عهدي

كأني ما استمتعتُ منك بِضَمَةٍ

ولا شمة في ملعب لك أو مهد

أُلامُ لِمَا أُبْدِى عليك من الأسى

وإِني لأُخفي منك أضعاف ما أُبدي

**أ. د. السيد عبد الحليم محمد**