استحقاقات جنوبية سياسية..!
غالبًا ما تتخلق السياسة في المجتمعات العربية في أنابيب رغبات الخلاف، لتنمو شيئًا فشيئًا، في بيئات خصبة، حتى تصل لمرحلة الصراع والكارثة. غير أن التأريخ يلهمنا أن الشعوب الواعية الحرة ذات الإرادة المرتبطة بالمصير والمستقبل، والتي تنشد حريتها وتحقيق استقلالها تتغلب على تلك التحديات المؤقتة، ولا تسمح بتحولها إلى أزمات مزمنة وطويلة، وتحقق هدفها الوطني، وتنال استحقاقاتها بثقة وإرادة واعية. وفي واقع كالذي يجري اليوم في الجنوب نجد أنفسنا بعد عامين ونيف من الانتصار التاريخي، والتضحيات الجسيمة، وتمكن الجنوبيين من استعادة الحق الجنوبي جغرافيًا، أمام استحقاقات سياسية لا تزال رهينة لنقاط وجذور سياسية هي بداية القضية من أساسها، والتي حولت (عاصفة الحزم) بعض أطرافها إلى (تحالف تكاملي مؤقت) في لحظة تاريخية خطيرة وحساسة ارتكز عليها مصير الجميع. غير أن هذا التحالف التكاملي، رغم اختلاف أهداف أطرافه، إلا أنه حقق انتصارات جوهرية، لكنه وبعد تحقيق الهدف بالنسبة للجنوب تحول إلى (تداخل عميق) محكوم بـ (طبيعة الخلاف السياسي) بين مشروعي (استقلال الجنوب ودولة اليمن الاتحادية بستة أقاليم) حيث المشروع الأول هدف للطرف الأقوى ميدانيًا على الأرض، والثاني هدف للطرف المالك لقوة القرار السياسي. وهذا ما أنتج خلافا مركبًا ومتعاكسََا، يسعى الطرف الأول فيه لانتزاع شراكة قرار سياسي جنوبي إلى جانب قوته الميدانية، لتحقيق مشروعه المسنود شعبيًا، فيما الطرف الثاني يسعى لتشكيل قوة ميدانية لحماية قراره السياسي لفرض مشروعه المرفوض شعبيًا. وبين هذا وذاك يقف الحليف العربي،بكل بساطة وبطريقة ديمقراطية جدا أن تتخلى عن كبريائها وعسيبها لمصلحة مناطق لغلغلية مستضعفة؟. وهل تأييد الشيخين الشايف، شيخ مشايخ قبيلة بكيل ومعظم مشايخ هذه القبيلة التي تعد أكبر القبائل باليمن - شمالا - وبما تمتلكه من مساحة جغرافية وبشرية تواقة للتخلي على هذه الهيمنة لمصلحة مناطق وقبائل أخرى، وباتت تنصاع لما تقوله لها الأحزاب، وتقدم تضحياتها لهذا الغاية؟!. المسألة باختصار شديد هي محاولة بائسة يائسة يستميت أصحابها التمسك بها وتمريرها بقوة البلطجة السياسية وبسطوة الاستقواء بعضلات الخارج - أو هكذا يعتقدون - لفرض مشروع سياسي (مخرجات حوار الستة الأقاليم) قد طوته المتغيرات وتجاوزتها الوقائع السياسية والعسكرية على الأرض ولم يعد له من مستقبل، بل وأصبح في ذمة التاريخ عظاما نخِـرة. وبالتالي فإن أي قبول جنوبي لهذا المشروع، مشروع ما قبل الحرب الأخيرة (2015م) بعد كل هذه التضحيات أو أي تجاهل لكل ما استجد على الخارطة السياسية التي أفرزتها هذه الحرب يعني بالضرورة أن هذه الحرب بكل مآسيها وانتصاراتها كأنها لم تكن، واعتبار كل هذا الدمار وهذا الشرخ بصميم الأنفس، وكل هذه الآلاف من الشهداء والجرحى مجرد حدث عابر لا يستحق التوقف أمام نتائجه، فهل يقبل الجنوبيون بهكذا مشاريع تعسفية ؟. حين نقول إن هذا المشروع لم يعد له من مستقبل وإنه مشروع أصبح من الماضي، وإن التصدي له ولو بالقوة المسلحة واجب وطني (جنوبي على الأقل) فإننا ننطلق من حقيقة ذات شقين: أولاً ـ إن الجنوب استبعد عن عمد من المشاركة بصياغة ذلك المشروع (الستة الأقاليم)، بل واستبعد من المشاركة الفعلية من ذلك الحوار كله، برغم المحاولة الجنوبية التي تمت من خلال الفصيل السياسي الجنوبي الوحيد المشارك به، وهو(مؤتمر شعب الجنوب) فإن هذه المشاركة تم إجهاضها تماما والتآمر عليها بحقارة، برغم ما حملته تلك المشاركة من مشروع سياسي برجماتي (رؤية سياسية معتدلة كان جوهر فكرتها يستند على دولة اتحادي من إقليمين بحدود عام 90م) بحده الأدنى من المطالب الجنوبية، فلم يأخذ ذلك الحوار بأي بند أو فقرة أو كلمة من تلك الرؤية السياسية، وتم تمزيقها بقاعة وردهات فندق الحوار(موفنبيك) تماما كما فعلوا مع رؤية الحزب الاشتراكي اليمني المُدانية لها. ثانياً ـ حتى لو افترضنا جدلاً أن الجنوب كان شريكا بصياغة ذلك المشروع (الستة الأقاليم) بنسبة 50 % فإن الأحداث الدراماتيكية الكبيرة التي تلته بهذه الحرب كافية لأن يتم اعتباره في ذمة التاريخ، أو في أحسن الأحوال أصبح بحاجة إلى إعادة نظر ومراجعة من الغلاف إلى الغلاف، فالتجارب خير شهود.