جوع وتخمة .. بين موتتين

دُعي إلى وليمة كبيرة لأحد المسئولين من عليّة القوم، استطاع ( ياسر ) أن يتكهّن بحجم الوليمة بالقياس إلى ثروة الداعي، ولما كان معروفاً بعلاقاته الكثيرة والمتشعبة، نال الحظ بدعوته، لما وصل إلى قصر السلطان، أو شبيه السلطان، لا يهم ما دامت السلطات والسلطانيات كلها من مشتقاته.

 رأى أن الموائد قد مُدت، كانت تعجّ بأصناف الطعام وألوان الأطباق، سال اللعاب من أفواه المدعوّين، وحدّقت عيونهم في صحافها البراقة، صحون لا أول لها ولا آخر، ما كانت لتتحملها أية طاولة لولا أنها فُرشت على الأرض كأنها حديقة غنّاء من أطباق شهية.

وزّعت كؤوس الشراب على المدعوّين، كانت ذات نوعين، نوع يتراقص الرأس إن خالطته بشاشتها، ونوع للمتحفظين الهادئين، ممن لا يحبون المغامرات في ليالٍ حمراء قانية، وكان صاحبنا من النوع الثاني إلا أنه رأى تصرفات النوع الأول ممن عاقروا الكؤوس الدوّارة، كانوا يضحكون بأصوات عالية، تتبع ضحكاتهم تجشآت كأنها أصوات الخنازير.

بعد فترة وجيزة هدأت الأصوات، توجه الجميع إلى الموائد المفروشة، دقت ساعة البدء وبدأ النزال، نسي كل رفيق رفيقه، لا تُسمع إلا الهمهمات واللمسات واللحوسات، وأصوات الملاعق وتصادم الصحون، سالت دهون اللحم الطري بين الأصابع، وعملت فكوك القوم وأسنانهم بقوة مضاعفة، ظلوا على ذلك زمناً تناسوا فيه العالم، تناسوا كل الجائعين والمحرومين، والحقيقة أن ياسراً ضيفنا صاحب الحظ السعيد كان لا يأبه إن لم يفعلوا، المهم عنده أنه قد قضى في تلك الصحاف وطره.

ترامت على أحضانه قطع اللحم والخضار، وتسابقت إلى شدقيه المحشيات والمقليّات، كان يعانق ما يشتهي منها، ويقبّل ما يشاء، وفعل القوم فعله، فلما انتهوا من غزوتهم ورووا غليلهم، نظروا بين أيديهم ليروا نتاج ما أبدعت أفواهم، كان شيئاً ربما يرضى عنه المُضيف، لكن ربما يكون للجائعين فيه قول آخر.

انتهى الجميع بعد أن تدفقت السيالات العصبية إلى أمخاخهم مؤذنة ومحذرة بالانفجار إن تمّ الاستمرار، ظهرت أمام صدورهم زوائد لم تكن توجد، وعبق الجو بروائح الجشاء وأصوات التثاؤب، تمايل المدعوون على الأرائك واسترخوا، بعضهم ذهب في غفوة إذ لم يتحمل، أما البقية فناقشوا فيما بينهم كل شيء إلا أخبار إخوانهم ممن يقضي جوعاً ويموت برداً ولا يجد كسرة خُبز أو دثار.

مقالات الكاتب