خواطر موجعة

حين تقف على مسارح المدرج الروماني في الجزء الشرقي من العاصمة الأردنية عمّان ، تستطيع ان تبتسم كما يمكنك ان تضحك حتى تتبدى نواجذك، فهناك وسبما في ليالي الاحتفالات سترى كيف يعيش الناس حياتهم بالطول والعرض كما يقال ، يرسمون الجمال ويقدسون الحب ويصنعون الفرح . وهذا ما رأيناه في وجوه مشرفة باسمة وجميلة كانت تزين مقاعد المدرج الحجرية وكأننا في معرض ملكات وملوك جمال مفتوح. لكن ولأنك جنوبي قادم من وطن يحتضر فربما تتجاوز ذلك الى حالة بكاء ووجع ، وان تستسلم للحطة تأخذك فتستذكر واقع أهلك ووطنك وارضك وكيف صارت حياتهم مجرد (عايش عناد)كما يقال . وفق مقاييس الحياة ومعايير السعادة لدى شعوب العالم تستطيع وانت تزور اي عاصمة ان تصل الى اقتناع ان الناس في ارضنا المنكوبة، لايعيشون بل يتعذبون والأسوأ أنهم يسهمون في صنع عذابهم وموتهم البطيء وضياعهم وضياع مستقبل أبناءهم وأحفادهم ،والاقبح انهم يفتخرون ويفاخرون بهذا القبح الذي يصنعونه،بل انهم يعتقدون ان حياتهم بما يشوبها من ملوثات هي الحياة الحقيقية التي حرمت منها باقي شعوب الارض التي ليس لديها سلاح ولا قات ولاشمة ولا قادة مقاومة ولا شيوخ . تصادفت زيارتنا للمدرج الروماني مع احتفال جميل وانيق حضرته وزيرة السياحة الاردنية وقيادة العاصمة عمان الذين اخذوا أماكنهم بتواصعٍ جم بين الجمهور ، كان كل شيء في المكان ينبض بالحياة والفرح والجمال ، غنى فنانون مبدعون لمحمد عبده ابعاد وللعندليب حليم وامشيت وانا خايف واغانٍ ورقصات كلاسيكية، أخذتنا إلى عوالم من الإحساس بالجمال غير متناهية. على المدرج الروماني الذي شيد في العام ١٣٠ للميلاد تستطيع ان تكتشف سر تقدم المجتمعات من حولنا وتأخرنا نحن ، اذ هو يكشف كيف كانت الناس تفكر بالفن والثقافة والرياضة والابداع قبل الفي عام ، في حين تكشف معالمنا عن العقلية التي كانت تحكم سلوك الاجداد الذين لم يتركوا لنا من الآثار التي نفاخر بها سوى قلاع الحروب والحصون المنيعة التي لا يصلها العدو والغزاة وفي احسن الاحوال تركوا لنا صهاريج الطويلة التي مهمتها حماية المدينة من السيول تجنبا للموت ايضا . لاشي ء في حضارات اليمن شمالاً وجنوبا او على الاقل لم يصل إلينا ما يؤكد انتماؤنا تأريخيا للفكر والثقافة وتقديس الحياة فكل مايحفل به تاريخنا هو قطع سيوف أثرية او حصون محمية وكلها رسائل عنف وموت يبدو انها تركت أثرها فاستمرت حياتنا على هذا المنوال. حين نرى العالم من حولنا كيف يعيش تنتابنا حالة من الإحساس بالوجع لمانحن فيه ونتساءل لماذا لايستشعر السياسيون والاغبياء الذين تسلطوا ومايزالوا على هذا هذا البلد مقدار وحجم تأخرنا عن باقي شعوب الأرض ولماذا لايتركون للناس متسعا ليعيشوا حياة كما هو العالم من حولهم. حري بمن يملك أمر هذا البلد المنهك (الجنوب) ان يناشد الناس او يأمرهم بأن يدركوا انهم قد اضاعوا حياتهم فيما مضى من أعمارهم في اقتتال وصراع وفقر ونزاع وتخلف مرير وان عليهم ان ارادوا ان ينطلقوا لحياة حقيقية ان يرموا ماضيهم خلفهم بكل مساوئه ،ليتماسكوا ويتعاضدوا لبناء مجتمع جديد متآخٍ ، ولينبذوا الفوضى والعنف والسلاح والقات ويتركوا الغرق في الحديث الذي لاينتهي في شؤون السياسة. حين كنت على المسرح الروماني صعد احد الفنانين ليغني (اللي مضيع ذهب بسوق الذهب يلقاه واللي مضيع حبيب يمكن سنة وينساه بس اللي مضيع وطن وين الوطن يلقاه) دوى المسرح بتصفيق عشرات الفتيان والفتيات الاردنيون وهم يبتسمون لأن لهم وطنا عظيما يحميهم، يحبونه ويحبهم ويوفر لهم حياة كريمة آمنة ،فيما اطرقنا نحن رؤسنا ألما وخجلا ووجعا لاننا لا نستطيع ان نصفق فلا وطن لنا يحبنا أونحبه سوى ما نصنعه نحن في خيالاتنا حالمين ان يعود ومع ذلك نكاد نقتله ونقتتل باسمه فيما بيننا في حين متزال وطننا المنشود في مجرد حلم تكاد عقلياتنا المريضة ان تحوله إلى كابوس مرعب.

مقالات الكاتب