سايكس ـ بيكو القرن الحادي والعشرين
أكثر من قرن منذ اتفاق سايكس-بيكو والعالم العربي على حاله تقريباً كما كان مسرحاً لتدخلات القوى الأجنبية الإقليمية والدولية. جميع هذه الأطراف كانت تسعى إلى إحكام قبضتها ونفوذها على المنطقة العربية لتصبح منطقة لصراع النفوذ بين القوى الإقليمية والدولية. واستمر الحال كذلك في ظل الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، عبر حلف بغداد أو عبر ما سمي مشروع الرئيس أيزنهاور في الخمسينيات من القرن الماضي، وما تلاها بعد ذلك من أحداث سبتمبر (أيلول) 2011، واحتلال القوات الأميركية للعراق في عام 2003. وبانفجار مرفأ بيروت مؤخراً الذي شبه بانفجار «هيروشيما»، جاءت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت، قبل أي شخصية عربية أو دولية، ورأى بعضهم في هذه الزيارة المبكرة ترجمة أو تعبيراً عن العلاقات الفرنسية - اللبنانية الممتدة بين البلدين منذ الانتداب الفرنسي على لبنان. أحلام إعادة إنتاج دولة الخلافة العثمانية لدى تركيا، والأحلام الإمبراطورية لإيران التي سعى إليها نظام شاهنشاه إيران قبل سقوطه، وتبنى الملالي الاتجاه ذاته، تطرح التساؤلات حول مواقف الدول العربية في مواجهة هذه التحديات: هل وقفت موقفاً جماعياً ضدها أم أن كل دولة تسعى انفرادياً لحماية نفسها من تلك المخاطر والتهديدات؟ إن النظام العالمي المعاصر هو في أجزاء كثيرة منه مستوحى مما أفرزته معاهدة وستفاليا لعام 1648 التي أنهت حرب الثلاثين عاماً، والتي وضعت نهاية للحروب الدينية التي مزقت أوروبا، وأنتجت مفهوم الدولة القومية، بالإقرار بسيادة الدولة، ومبدأ عدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والمساواة بين الدول، والتعايش السلمي في ظل احترام المؤسسات السياسية والقيم والدين لجميع الدول، وهي المبادئ التي تأسس عليها النظام العالمي. ولكن تلك المبادئ والقيم التي حُددت في «وستفاليا»، والتي وضعتها الدول الأوروبية منذ قرون لحل صراعاتها وحروب الثلاثين عاماً، لم تمنعها من التوسع جغرافياً، واستعمار مساحات واسعة عمت معظم مناطق العالم، ومنها المنطقة العربية. فقد تحالف العرب مع الحلفاء في أثناء الحرب العالمية الأولى، اعتقاداً منهم أنهم سيحصلون على استقلال بلادهم، كما وعدتهم بريطانيا، ولكنهم فوجئوا لاحقاً بوجود اتفاق سري بين فرنسا والمملكة المتحدة، وقعه عن فرنسا فرنسوا جورج بيكو، وعن بريطانيا مارك سايكس، بمصادقة من الإمبراطورية الروسية كشفت عنها الثورة البولشيفية في عام 1917، ويقضي باقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا، وتحديد مناطق النفوذ بينهما في غرب آسيا، وتقسيم الدولة العثمانية القائمة خلال الحرب العالمية الأولى، إذا ما انتهت الحرب لصالح الحلفاء. وبنهاية الحرب العالمية الأولى، لم يتوقف في أثناء الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي السعي إلى بسط نفوذهما في المنطقة، عبر حلف بغداد (1955)، ومن خلال مشروع أيزنهاور (1957)، وهما ذوا طابع عسكري اقتصادي، وضعا بحجة ضمان الأمن والاستقلال في الشرق الأوسط، ودعم السلام العالمي، وهما موجهان في الأساس إلى تطويق الاتحاد السوفياتي، ومواجهة خطر تغلغل الهجوم الشيوعي الدولي في دول المنطقة. بيد أن مشروع أيزنهاور كان من أهدافه أيضاً، أمام انحسار النفوذ البريطاني والفرنسي، أن تحل الولايات المتحدة محلهما في المنطقة العربية. ولهذا، وعلى العكس من حلف بغداد الذي لم يكن فيه من الدول العربية إلا العراق، فإن مشروع أيزنهاور ضم عدداً لا بأس به من الدول العربية وبعض الدول الإسلامية. وما هو لافت للنظر أن تركيا وإيران اللتين كانتا عضوين في حلف بغداد، وجدتا مجدداً في مشروع أيزنهاور، ولكل منهما مطامع إمبراطورية باستعادة نفوذهما في المنطقة العربية. وبعد مضي أكثر من مائة عام على اتفاقية سايس-بيكو التي تقاسمت فيها فرنسا وبريطانيا منطقة الهلال الخصيب التي كانت تحت سيطرة الدولة العثمانية، أصبح الهم الرئيسي واستراتيجية قادة حزب العدالة والتنمية الحاكم يرتكز على كيفية إعادة إنتاج دولة الخلافة العثمانية، وهو الذي تبلور بشكل أوضح وصريح بعد تولي السيد رجب طيب إردوغان رئاسة الدولة التركية. وقد تناول أحمد داود أوغلو، وزير الخارجية رئيس الوزراء التركي السابق، في كتابه «العمق الاستراتيجي... موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية»، كيف أن بلاده لا يمكن أن تبقى مجرد جسر بين الغرب والشرق، بين أوروبا وآسيا، بين الإسلام والمسيحية، بل لا بد أن تمثل مركزاً تمارس منه دورها الحيوي، فعلى تركيا أن تكيف سياساتها بتوظيف موروثاتها التاريخية والجغرافية. وفي حديث صحافي عام 2010، مع إحدى الصحف البريطانية، تناول بشكل أدق طموحات تركيا في الشرق الأوسط ومحيطها الإقليمي، بأن تنحو نحو بريطانيا التي أسست الكومنولث مع مستعمراتها السابقة، متسائلاً: لماذا لا تكرر تركيا زعامتها في الأراضي العثمانية السابقة في البلقان والشرق الأوسط وآسيا الوسطي؟ مما يعني تأسيس الكومنولث العثماني، مستطرداً: «إن لدينا ميراثاً آل إلينا من الدولة العثمانية، وهم يقولون عنا إننا العثمانيون الجدد. نعم، نحن العثمانيون الجدد، ونجد أنفسنا ملزمين بالاهتمام بالدول الواقعة في منطقتنا، ونحن ننفتح على العالم كله، حتى في شمال أفريقيا». وأضع هنا خطاً تحت «حتى في شمال أفريقيا». والسؤال المطروح هنا: هل ما تناوله داود أوغلو الذي انشق عن إردوغان توجه فردي، أم أن أغلب النخب السياسية التركية لديها التوجه نفسه؟ في مقال لسوسن الشاعر، نُشر في هذه الصحيفة في 2 أغسطس (آب) الماضي، وحمل عنوان «هل هو إردوغان أم هي تركيا؟»، أشارت فيه إلى ما يفعله إردوغان في ليبيا وسوريا والعراق، وتساءلت: هل هو طموح شخصي للرئيس التركي رجب طيب إردوغان وحلم إردوغاني فحسب، أم هو طموح لتركيا الدولة، توافقه عليه كل الأحزاب، بمن فيهم معارضوه؟ وتجيب الكاتبة سوسن الشاعر على تساؤلها باستعراض أقوال وآراء بعض الشخصيات المعارضة في تركيا، منهم من سبق وأشرنا إليه (داود أوغلو)، في تصريحات له عبر وسائل إعلامية تركية، قال فيها: «لا بد أن أتحدث عما يجري وراء الكواليس: مواجهة بين مصر وتركيا في ليبيا لن تكون في صالح تركيا، لكن ليس من الصواب أن ننسحب من ليبيا لأن مصر أو غيرها أرادت ذلك، بل يجب استخدام قدرة تركيا بحكمة». واستخلصت الكاتبة من أقوال داود أوغلو أنه أبقى الباب مفتوحاً أمام التدخلات، ولكنه يختلف مع الأسلوب التصادمي لإردوغان فقط، لا على المبدأ. وفي بقية حديثنا، عند تناول طموحات إيران هي الأخرى في منطقتنا العربية، ودرجات الاختلاف في بعض الأوجه عن الطموحات التركية، نتساءل عن كيفية التعامل العربي مع هذه التحديات ذات التوجه لإحياء سايكس-بيكو جديد في منطقتنا العربية. الدكتور محمد علي السقاف صحيفة الشرق الاوسط