القضية الجنوبية وإشكالية الهوية (2)
الفصل الأول المسار التاريخي للقضية الجنوبية ــــــــــــــــــــــــــ في الثلاثين من نوفمبر من عام 1967م أعلن عن قيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية على أنقاض 23 سلطنة وإمارة ومشيخة كانت تكون ما عُرف بمحميات الجنوب العربي، التي قسمتها السلطات الاستعمارية البريطانية إلى محميات غربية وأخرى شرقية، فأغلب المحميات الغربية كانت قد انخرطت في محاولة بناء اتحاد فيدرالي نظمته ورعته السلطات البريطانية، ومثل خطوة على طريق محاولة "توحيد الجنوب" في كيانٍ واحدٍ لكن ظروفاً تاريخية واجتماعية وجغرافية وغيرها عديدة لم تمكن الاتحاد من النجاح في هذه المهمة، وهو حديث يمكن الخوض فيه كثيراً في سياق آخر ودراسة أخرى. أما المحميات الشرقية، وهي ذات الكثافة السكانية الأقل والمساحة الجغرافية الأكبر فقد تمنعَ حكامها عن الانخراط في الاتحاد، وفضلوا البقاء كمحميات بعيدة عن شقيقاتها الغربيات، ولهذا ظروف وحيثيات ليست موضوع دراستنا في هذا البحث. ومهما يكن فإن قيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية (التي سيغدو اسمها لاحقا جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) في 30 نوفمبر 1967م قد أسدل الستار على ما قبله وأسس لما لم يكن ممكنا في عهد الحماية البريطانية، حيث جرى لأول مرة منذ أزمنة غابرة قيام دولة جنوبية على مساحة تشمل 375 ألف كيلو متر مربع، وتمتد من حوف وصرفيت ونشطون شرقاً إلى باب المندب غرباً، شاملة أرخبيل سوقطرة في بحر العرب وجزر ميون وكمران وأرخبيل حنيش في البحر الأحمر. لم تسر دولة جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية في طريق مفروش بالسجاد فلقد كانت المهمات الجسيمة فوق قدرة النظام حديث النشأة، ووحدها عملية دمج المناطق وتكويناتها السياسية في إطار وطني واحد كانت تمثل تحدياً كبيراً لنظام يديره مجموعة من الشباب الذين باستثناء قلة قليلة من الكهول والمتخصصين تتركز كل خبراتهم في خوض العمليات الفدائية ومنازلة قوات المستعمر، وقد واجه النظام الوليد مجموعة من التحديات التي كان يمكن أن تعصف به لولا الالتفاف الشعبي الكبير الذي صنعته السمعة العالية لقيادة الدولة الجديدة والتنظيم الذي استلم الاستقلال، هذه السمعة المبنية على قهر الدولة الاستعمارية التي لم تكن "تغيب عنها الشمس" ذات يوم، كما مثلت القيادات الجديدة في النظام الناشئ صورة نموذجية للقادة البسطاء الصادقين النزيهين الذين صار الكثير منهم قدوة لجيل كامل من شباب ما بعد الاستقلال. لقد كان النزوع القومي العروبي في توجهات كل التنظيمات والأحزاب السياسية الجنوبية منذ عهد ما قبل الاستقلال وراء الكثير من الخطوات والمواقف السياسية لمرحلة الثورة الجنوبية المسلحة منذ 14 أكتوبر 1963م حيث تبوأت صدارة المشهد (الثوري) للكفاح المسلح ضد الاستعمار كلٌ من "الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل" و"منظمة تحرير جنوب اليمن المحتل"، والتي سيغدو اسمها لاحقا "جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل" ويختصرها العامة باسم "جبهة التحرير"، والشاهد هنا أن عبارة "جنوب اليمن" كانت حاضرةً في الثقافة السياسية كما في النفسية الاجتماعية الجنوبية منذ وقت مبكر، ثم جاءت بعد ذلك تسمية دولة الاستقلال بجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية في نفس سياق انتشار وتنامي تلك النزعة القومية العروبية، وسنتوقف بتفاصيل أكثر عند هذه المسألة في مواقع أخرى من دراستنا هذه. وهكذا فقد كان شعار "الوحدة اليمنية" جزءً أصيلا من الثقافة السياسية الجنوبية، وقلة قليلة من التنظيمات والأحزاب الجنوبية لم تتحدث في وثائقها عن هذه القضية عانت كثيراً من الانكماش والعزلة خصوصاً وقد اقترن شعار "الوحدة اليمنية" بشعار "الوحدة العربية" الذي ارتبط هو الآخر بنهوض الحركة القومية العربية وتصاعد الحماس الثوري العربي الذي رافق التجربة الناصرية في مصر وما حققته من نجاحات سياسية واجتماعية اعتبرت نجاحات للتوجه الوحدوي العروبي. وكما في فترة التحرر الوطني ومقاومة الاستعمار، فقد ظل شعار "الوحدة اليمنية" ملازماً لكل فترة ما بعد الاستقلال سواء في فترات الاضطراب وعدم الاستقرار أو في مراحل توطيد بناء النظام وترسيخ أقدام الدولة على الأرض. مرت تجربة العلاقة بين الجمهوريتين "العربية اليمنية" و"اليمن الديمقراطية" بمراحل متعرجة شابتها المواجهات العسكرية حينا والتراشقات الإعلامية حينا آخر، كما شابها الهدوء والتناغم في مراحل قليلة، لكن الطرفين ظلا يرفعان شعار "الوحدة اليمنية"، وكان كل طرف له في الشعار "ليلاه" التي يتغنى بها. (يتبع)