من ذكريات الوحدة اليمنية بين عهدين
لا أدري ما الذي ذكرني بالعنب اليمني؟ ربما طول الحجر الصحي، وربما موسم جني العنب، وربما حبّي الشديد للعنب الأسود والرازقي بدون بذور ملك العنب. ليس هناك ما هو ألذ منه ولا أشهى في الدنيا. ذات يوم كنت في صنعاء بعد الاجتياح العسكري الغاشم لمدينتي البحرية المدنية المسالمة عدن الحبيبة. أُجبرنا على الذهاب إلى صنعاء بعد الحرب لمتابعة رواتبنا؛ مكرهًا أخاك لا بطل!.. وما أصعب مرارة الهزيمة في المجتمعات العربية القبلية التقليدية. زرت صنعاء قبل الاجتياح وبعدها فشاهدت الفرق بين الحالتين في التعامل والاستقبال لنا نحن -القادمون من الجنوب- قبل الحرب والهزيمة، كانت حفاوة الاستقبال والمعاملة باذخة الكرم والضيافة، لاسيما في المؤسسات الحكومية العامة. كان المسؤول ينهض من مقعدهِ حينما يعلم أنك جنوبيٌّ، ويحيطك باهتمام خاص مشفوعًا بالكلام الجميل الذي يطيب الخاطر. كنتَ تخرج من المكتب بقلب مجبور ومشاعر وطنية عالية المودة والأخوية، وترى صنعاء عاصمتك وأهلها أهلك. وأهل صنعاء كرام بطبيعتهم ولا تحس بينهم بالغربة والاغتراب. كم أحببتها حينها فقط. أما بعد الحرب والهزيمة فقد اختلف الأمر ١٨٠ درجة. طلعنا بروح مكسورة مثقلة بمشاعر الحزن والقهر والندم. كان ذلك عام ١٩٩٦م إذا لم تخني الذاكرة. لم يستقبلنا أحد! كانت صنعاء في قمة نشوة نصرها على أختها عدن، وكانت القبائل والعسكر الذين عادوا بالغنائم من عدن، يتفقدون غنائمهم، ويفكرون بكيفية استثمارها في بلادهم -وعز القبلي بلاده! وكان الأخوة الشماليون يتدفقون إلى عدن وحضرموت لنهب ما لم يُنهب بعد أو للاحتفاء بالفتح الوحدوي المؤزر بالتكفير والشر الوبيل. كنا نحن -القادمون من عدن- إلى صنعاء أشبه بالأيتام على موائد اللئام! سكنّا في أرخص اللوكندات القذرة. وكنا نمضغ القات طوال الليل والنهار ولا نحب الخروج إلى الشارع العام، بعكس ما كنا نفعله قبل الهزيمة حينما كان صنعاء بالنسبة لنا عاصمة دولتنا الجديدة. إذ كنا نطوف شوارعها على الأقدام بفرح وانسجام؛ صنعاء القديمة باب اليمن وشارع التحرير وشارع جمال وشارع الزبيري وشارع هايل وشارع حدة والأصبحي والنهدين ووادي ظهر وكل الامكنة الجميلة في المدينة المزدحمة بالسكان. اكلنا السلتة والفحسة والملوج في شارع الزراعة واشترينا الطنافس الأثرية وكنا نتمنى أن يطول الليل في صنعاء الحميمة بما حوت من كل فن! سكنت حينها في فندق الحمدي الأثري الجميل؛ فأحببتها، وتركت في نفسي أثرًا لا يمحى. هذا كان قبل الحرب والهزيمة الساحقة القاصمة التي قصمت ظهر البعير إلى الأبد. بعد الهزيمة أجبرنا على الذهاب اليها ونحن صاغرون لغرض ترتيب اوضعنا الوظيفية بعد الهزيمة كان عشرات الالاف من الموظفين الحكوميين في دولة الجنوب الشريكة في وحدة نفق العليين الجنوبي والشمالي احدهما غبي والاخر شرير. في تلك الزيارة المؤلمة شعرت بالاختناق واحسست بان صنعاء لم تعد هي التي أحببتها قبل الحرب والهزيمة. شهدتها ضيقة وموحشة وغريبة، وتمنيت أن أخرج منها بأسرع وقت ممكن. ذهبنا لمتابعة مستحقاتنا في المؤسسات المعنية، وتُركنا ساعات على عتباتها الحديدية . كان حراس الأبواب ذاتهم الذين استقبلونا بحفاوة في المرة الأولى يصرخون في وجوهنا بشراسة مصحوبة بنظرة احتقار، إلا من رحم ربي، وكان متربِّيًا وأنا لا ألومهم لأنني أعرف إنها السلطة التي تقول ولا تتكلم! تُركنا ساعات طوال على الأبواب من مطلع الشمس حتى مغيبها، ولكن شمس صنعاء حانية. تم التعامل معنا بوصفنا أسرى حرب لا مواطنين يمنيين من عدن التي قدمت لصنعاء الجمل بما حمل -على طبق من ذهب- في تلك الأيام القاسية، وبسبب الإهانات الظاهرة والخفية، المادية والمعنوية، الواقعية والرمزية التي تجرعناها في مكاتب صنعاء السنحانية الأحمرية؛ كنا نبحث عن أي مكان قريب منها لم نره في المرات السابقة. سألت أحد المارة عن أجمل مكان يمكن زيارته خارج صنعاء فقال لي: بني حشيش حيث مزارع العنب الأحمر والأسود والرازقي على بعد ساعة من هنا. لم أنتظر بقية الكلام فذهبت أبحث عن محطة بني حشيش وركبت السيارة وهناك رأيت ما يفرح العين وينعش الروح ويبعث السعادة. أناس بسطاء من الرجال والنساء والأطفال لم تلوثهم السياسة استقبلونا بوصفنا سيّاحًا أجانبَ. أخذونا في جولة سياحية في مزارع العنب الواسعة التي كانت في أوج موسم النضج. دخلنا تحت العرائش الخضراء، ونحن في وضعية السجود ولامسنا عناقيد العنب المتدلية بدهشة وفرح أنستنا الحرب والهزيمة؛ عشت لحظة خاطفة من السعادة الغامرة أحسست بها وأنا في بستان العنب الحشيشي، وتمنيت أنها بلدي. المزارعون أهدونا سلة كاملة من مختلف أنواع العنب الطازج. تلك السلة ذكرتني بأغنية قديمة كنت أحبها (جاب لي سلة عنب والعنب ما ريده).. لم أعد أتذكر من غناها هل هو وديع الصافي؟ وأنا أحب العنب الأسود الحالي والرازقي. والخلاصة أننا أحببناها قبل أن نتذوق عنبها وحينما تذوقناه كانت قد كرهتنا! فكان ما كان مما لست أذكره فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر! وهاكم الصورة. وحالي يا عنب رازقي والحنين وجع الذاكرة..