سبتمبر الثورة الموؤودة
لم يعد النقاش اليوم حول ما إذا كان ما جرى صبيحة السادس والعشرين من شهر سبتمبر عام 1962م يمثلُ ثورةً أم انقلاباً عسكرياً، فالمهم أن ما استهدفه الثوار الذي تصدروا مشهد الفداء والتصدي للنظام الكهنوتي هو نقل السلطة من السلالة إلى الشعب، وعندما صار الرجل الأول، المشير عبد الله السلال عليه رحمة الله، وهو من عامة الشعب، عندما صار على رأس السلطة كان هذا يعني أن زمن حكم الفرد وأيديولوجية الخرافة وادعاء الوصاية على الشعب قد ولى، أو هكذا تهيأ لأبطال سبتمبر الأشاوس يومها. ويومها سمعنا ونحن صغارٌ صوت الفنان الرائع حمود زيد عيسى وهو يغني أخي المهاجر زمان الفرد قد ولى وشعبك الحر شرد أسرة الطغيان أخي المهاجر بلادك حبها أغلى مما على الأرض من مالٍ ومن سلطان لكن الشعارات كانت تسير في اتجاه بينما كانت الوقائع على الأرض تسير في اتجاهٍ آخر مختلف كل الاختلاف. مشكلة ثورة سبتمبر بما استهدفته من انتقال جذري في حياة الناس، تكمن في أنها قامت على أيدي تلاميذ المدرسة الإمامية نفسها، ولنكون دقيقين فإن الثوار الحداثيين الحقيقيين اعتمدوا على تحالف واسع من القوى ضم في من ضم ركائز النظام الإمامي نفسه الذين لم يتمردوا على الإمامة أو لم يختلفوا معها إلا من باب الثأر والانتقام، وليس لغرض إجراء التغيير الثوري الذي حلمت به القطاعات الواسعة من الشعب اليمني ولاحقا جرى احتواء الثورة ودحر الثوار الحقيقيين وتصفية الكثيرين منهم ومن تبقى إما صمت وتعايش مع الوضع وإما لجأ إلى الخارج ولم يعد إلى البلد، تماما كما جرى مع الثورة الشبابية السلمية، التي قامت من أجل التغيير السلمي فتسلل إليها بعض أركان النظام المغضوب عليه، ليستولوا عليها وينخروها من الداخل ولتؤول الأمور إلى ما آلت إليه اليوم. مرت ثورة سبتمبر بتعرجات وتراجعات وعمليات احتواء وإفراغ من مضامينها الاجتماعية -الاقتصادية والإنسانية التقدمية ليتم إفراغها نهائيا من مضمونها وتسليم رايتها وكل ما أحرزته من تقدم نسبي إلى يدي أعدائها الذين يحتفلون بها اليوم في صنعاء بعدما نحروها من الوريد إلى الوريد. رحم الله الشهيد محمد محمود الزبيري الذي قال في وصف جمهور ما بعد 1948م يا شعبنا نصف قرنٍ في عبادتهم لم يقـــــــــبلوا منك قربانا تؤديهِ رضيتهم أنت أرباباً وعشتَ لهم تنـــيلهم كل تـــــــــقديسٍ وتأليهِ لم ترتفع من حضيض الرق مرتبةً ولم تذق راحةً مــــما تقاســـــــيهِ إلى أن يقول: نبني لك الشرف العالي فتهدمهٌ ونسحق الصنم الطاغي فتبنيه نقضي على خصمك الأفعى فتبعثهُ حياً ونشعل مصباحاً فتطفيهِ قضيت عمرك ملدوغاً وها أنذا أرى بحضنك ثعباناً تربيهِ لم تستطع ثورة سبتمبر إحداث تغيير في وعي الطبقات الواسعة من الشعب الذي يفترض أنها ثورته، فبقي الشيخ شيخاً والرعوي رعوياً وظلت عقلية الحكام تتمثل في أنهم جاءوا بديلا للإمامة وإن بثوب جمهوريٍ، ويتداول الناس في صنعاء ومعظم مناطق اليمن أحاديث مبهرة عن عمليات الاستيلاء الواسعة التي تعرضت لها أملاك الأئمة على أيدي (الثوار) الذين حلوا محل الأئمة وأضافوا هذه الأملاك إلى أملاكهم الخاصة، وهي التي يفترض أنها آلت إلى الشعب، وأنها ينبغي أن تذهب إلى الخزينة العامة للدولة، ولذلك انتشرت المقولة الساخرة في معظم أرجاء اليمن "ديمة خلفنا بابها". بدأ وأد الثورة خلال الصفقات المتعددة التي عقدتها القوى السياسية المتضررة من الجمهورية بما في ذلك بعض الـ"مجمهرين" وكان انقلاب 5 نوفمبر علامة فارقة في الانحراف عن مضمون ثورة سبتمبر، وما تلى ذلك لم يكن سوى تداعيات تراجعية أوصلت اليمن إلى 21 سبتمبر 2014م بحيث عادت الإمامة في ثوبها الجديد التي يستمد قوته وزخمه من مدرسة قاسم سليماني الإيرانية، وسيتذكر اليمنيون أن من سلم راية ثورة سبتمبر والجمهورية لأحفاد الإمامة هم أكثر الناس هذيانا وتلفظاً وتغنياً بالثورة والجمهورية ومزايدةً عليهما. ستتواصل الاحتفالات بعيد سبتمبر لكن من يحتفل في الخارج لا يستطيع أن يقدم قرص أسبرين لمريض في أي مركز صحي أو عيادة صغيرة في المدن والأرياف اليمنية، ناهيك عن إنه وبعد أن استعذب حياة الرفاهية في المهجر المريح لا يستطيع قضاء يوما واحدا في بلاد الشح والفقر والحرب والجفاف السياسي والاقتصادي والخدمي، أما الذين يحتفلون في صنعاء فاحتفالاتهم لا تختلف عن ذلك الذي يقتل القتيل ثم ينظم مهرجانات النواح عليه والتغني بفضائله. رحم الله شهداء ثورة سبتمبر.