بعد فوات الأوان
تقول قصة قصيرة من روائع الأدب الروسي للكاتب “أنطون تشيخوف” ان فلاح عجوز حمل زوجته المريضة في المقعد الخلفي من العربة التي يجرها حصان هزيل، حملها إلى المدينة البعيدة لعلاجها. وفي الطريق الطويل، بدأ الرجل يتحدث، يفضفض.. كأنما يناجي نفسه، ولكنه في الوقت نفسه يواسي زوجته المريضة التي عاشت معه طوال أربعين عاما في شقاء وبؤس ومعاناة تكد وتكدح، تساعده في الحقل، وتتحمل وحدها أعباء البيت. الآن..أحس أنه كان قاسيا معها طوال السنوات الماضية، وأن عليه، الآن، أن يعاملها بلطف ولين، وأن يُسمعها الكلمات الطيبة، قال لها إنه ظلمها، وأن الحياة أيضا ظلمتها، لأنه لم يجد الوقت في حياته اليومية ليقول لها كلمة طيبة حلوة وعذبة، أو يقدم لها ابتسامة صافية رقيقة كالماء أو يعطيها لحظة حنان! وظل الرجل يتحدث بحزن وأسى، طوال الطريق ليعوضها ـ بالكلمات ـ عما فقدته خلال الأربعين عاما الماضية وبأنه سوف يحقق لها كل ما تريده وتتمناه في بقية عمره. عندما وصل المدينة، نزل ليحملها من المقعد الخلفي إلى الطبيب ولكن وجدها قد فارقت الحياة.. كانت جثة باردة.. ماتت بالطريق.. ماتت قبل أن تسمع حديثه العذب الشجي. ذكرتني رائعة تشيخوف تلك، التي أهداها لي احد الاصدقاء، ذكرتني بكتابات (الوعظ السياسي) التي يتحفنا بها من نفذ بجلده من دورات الصراع ممن كانوا يتسنمون المشهد السياسي والعسكري خلال سنوات السقوط المريع للجنوب التي امتدت منذ ان يمننوا الجنوب العربي لاول مرة في ١٩٦٧م الى ١٩٩٠م عندما سلموا الجنوب رسميا لليمن الشقيق، تلك الكتابات التي تتطابق مع (ثرثرة) الفلاح العجوز التي جاءت بعد فوات الأوان. لا يستطيع اي من أولائك الوعاظ ان ينكر ان الجنوب كان سباقا في الحياة المدنية عن محيطه وان عدن كانت زهرة مدائن الجزيرة العربية كلها، وأن ميناءها كان ثالث ميناء على مستوى العالم، وان مطارها كان قبلة من قبلات الرحلات الجوية ومحطة عبور بين جهات الارض الأربع، وانها كانت مثالا للانضباط والنظام. لكن عدن في رحلة السقوط الكارثي للجنوب تحولت الى اطلال تفتقد النظام والمدنية، تعصف بها العشوائية في كل شيء، وتفتقد لمقومات الحياة كالماء والكهرباء ويعاني سكانها من الفاقة، عدن اصبح حالها يرثى له كحال زوجة الفلاح العجوز. قيل ان اللواء فرج البحسني ذرف دمعة حين زار الكلية العسكرية في معسكر صلاح الدين (وقد اصبح اسمها معهد الثلايا، وكأن شهداء الجنوب ومعالمه التاريخية لا تستحق ان تسمى بها الكلية العسكرية). ربما كانت دمعة البحسني التي ذرفها تعبيرا عن استرجاع امجاد هذا الصرح العلمي الذي عاش فيه طالبا ثم أستاذا، وربما تذكر زملاء له رحلوا عن دنيانا، وقلما يكون الرحيل في الجنوب بسلام. واقعة دمعة البحسني ذكرتني بواقعة اخرى رواها لي احد ساسة الجنوب اذ قال انه سأل احد حكام الجنوب السابقين: لماذا لم تسمعون النصائح التي كانت تصلكم من ابناء ومحبي الجنوب؟ فرد عليه قائلا: (من يتربع على الكرسي لا يسمع كلام الآخرين حتى لو كان في مصلحته.) بعيدا عن شماعة المؤامرة، من يتسنمون المشهد السياسي في الجنوب العربي اليوم من كافة النخب السياسية الجنوبية بدأ بالمجلس الانتقال وانتهاء بالشخصيات السياسية الجنوبية، هل سيتعضون من أخطاء الماضي ام سيكررونها؟. هذا سؤال لا نملك اجابته، لكننا نذكّر بالمثل العامي (لو دامت لغيرك ما وصلت اليك)، فهل نتعظ قبل ان يفوت الأوان مرة اخرى.