الجنوب .. بحاجة إلى إعادة ضبط مصنعي !
ليلة أمس اعترتني حالة من الأرق بعدما استرسلتُ كثيراً في التفكير والتعجب لما وصلت إليه حالةُ الوطن والمواطن ـ خاصةً في الجنوب ـ من تشتت وتشرذم وضياع ، بسبب الصراعات المحمومة للسيطرة على السلطة والمال وملذات الحياة الفانية . ليلة أمس هربَ النومُ من عيني أو جفاني ، كما تقول الأغنية اللحجية "كحيل الطرف ما بلقى مثيله " ( جفــاني النوم وأنا والليل مَقْلَب .. مسى الهاجس معي ساهن حليلة ) . في معمعان الأفكار والتصوّر ، خيّل لي الجنوب وكأنه جهاز تلفزيون ضخم معطل ، تطاولت عليه أيادي تفتقر إلى مهارة الصيانة والإصلاح والوعي ، في محاولات بائسة وفاشلة عمرها خمسون سنة كان نصفها الأخير أكثر فتكاً وضَراوة من ذي قبله . خلال هذه الجزئية من التفكير المهني تذكرت يونس نور احد المهندسين البارعين في العصر الذهبي لتلفزيون عدن كان مبدعاً ومنضبطاً في عمله المتقن ، قليل الكلام ، لم اسمعه قط يتناقش مع الزملاء في أمور لا تخص العمل .. بعد أن تقاعد فتح ورشة صغيرة في حوش منزلة ليقوم بإصلاح أجهزة التلفزيون والفيديوهات مقابل اجر مناسب ، كان رحمه الله ، له أسلوب متميز لا يحيد عنه في تعامله مع الزبائن (أسلوب انجليزي) ، يسألك اولاً إذا كان احد فتح الجهاز .. إذا قلت له لا ، يقبل فحصه ، ويرفض إذا قلت له : (وديناه عند واحد وما عرف يصلحه ) .. كما انه في أجهزة معينة يطلب منك الكتلوج الخاص بها الذي فيه الدياجرام ـ رسم مخطط الدوائر الالكترونية ـ (Electronic circuit diagram) . حصلت لي حكاية مع المهندس يونس الذي كان يحترمني كثيراً .. فقد جاءني مرة احد الأقرباء وطلب مني أن أدلهُ على مهندس ممتاز لإصلاح تلفزيونه المعطل ، فنصحته بالمهندس يونس إذا كان الجهاز لم يتعرض للعبث لأنه لن يقبله .. فقال لي طبعا لم يمسه احد ، فأخذنا الجهاز إلى يونس وهناك سألنا : (حد مسكه؟) قلنا لا طبعاً ، رد علينا : تمام بشوفه ، معك رقمي اتصل بي بكرة .. ثاني يوم اتصلت به كان يصيح ويعاتب في التلفون ليش كذبنا عليه بهذا الشكل وقال : تعال بنفسك شوف ايش في داخل الجهاز . ذهبتُ على طول إلى عنده و أراني دسميس ومجموعة سكاريب وجدهم داخل الجهاز لاصقين في مغناطيس السماعة (مكبر الصوت) .. على طول أخذت الجهاز إلى صاحبه ولما عاتبته اتضح لي أن أولاده هم من عبثوا به عندما استبسطوا عملية إصلاحه وكانت أمهم تدري ولم تخبره بالأمر . في الجنوب توجد سكاريب مهملة انتزعها الرفاق ، أما الدسميس فهو أداة عفاش التي خرب بها كل شيء في الجنوب وخاصة الأخلاق والقيم النبيلة . بلغةِ اليوم .. الجنوب بحاجة إلى إعادة ضبط المصنع يعني حذف كل البيانات وإعادة برمجته بنسخ أصلية محمية من الفيروسات والهكرز والتطفل ، وبلغةِ الأمس لازم نودّيه بيت الكمبني (فرع الشركة المصنعة) لأجل الصيانة وتغيير قطع الغيار التالفة بقطع ذات جودة وكفاءة عالية ، أيضاً ـ بيت الكمبني ـ لديهم الدياجرام الكبير الخاص بالجنوب . ما نسمعه اليوم من أصوات ونهيق و زعيق ، ما هو إلا (وشوشة وحشحشة) صادرة من جهاز تلفزيون معطل يتنافس على إصلاحه مجموعة من الأغبياء بأدوات الهدم وعقلية غارقة في حب الذات والتعصب المفرط .