أطفال اليمن... سوء التغذية يعوّق نموّ الصغار وسط النزاع

(عدن الحدث) متابعات :

في ظلّ النزاع المستمرّ في اليمن، يعاني الأطفال من سوء التغذية الذي يمثّل واحدةً من الأزمات الصحية والإنسانية الكبرى في البلاد. ويتفاقم ذلك مع نقص تمويل الرعاية اللازمة لهم، ولا سيّما مع تراجع المساعدات.

منذ أكثر من عقد من الزمن، تتوالى الصور المؤلمة الواردة من اليمن، تلك التي يظهر فيها أطفال، من مختلف الأعمار، وقد نتأت عظام أجسادهم الهزيلة على خلفية سوء التغذية الذي يستهدفهم، علماً بأنّ تلك الصور التُقطت، بمعظمها، إمّا في مستشفيات وإمّا في مراكز صحية، من بينها تلك المخصّصة في علاج سوء التغذية. في المستشفى اليمني السويدي للأمومة والطفولة بمحافظة تعز جنوب غربي البلاد، هذا الذي يُعرَف بين المواطنين باسم "النقطة الرابع"، تمتلئ الأقسام بالأطفال الذين ضاعت ملامحهم، وقد تحوّلوا إلى ما يشبه الهياكل العظمية بسبب إصابتهم بسوء التغذية الذي ينتشر على نطاق واسع بين الأطفال دون الخامسة بالبلاد. ويأتي ذلك وسط تفاقم أزمة الغذاء في ظلّ الوضع الإنساني المتردّي بفعل الحرب التي تشهدها البلاد منذ أكثر من عشرة أعوام.

في إحدى غرف المستشفى التابع لوزارة الصحة اليمنية، كانت امرأة يمنية تحتضن طفلها البالغ من العمر أربعة أعوام، الذي يبدو بملامحه أنّه لم يتخطَّ عامه الأول. ويتكرّر المشهد؛ جسد هزيل لا يقوى على الحراك، فيما الجلد ملتصق بالعظام، أمّا العينان فغائرتان وشاردتان والبشرة شاحبة. وتخبر والدة قصي "العربي الجديد": "طفلي يعاني سوء التغذية وقد صار هيكلاً عظمياً، ويبدو أنّه جسد بلا روح، فلا يقوى على الوقوف ولا على الحركة، كذلك لا يستطيع النطق بطريقة مفهومة"، مضيفةً أنّه "يواصل خسارة وزنه بصورة دائمة، ويعاني من ضعف في الاستيعاب والتركيز". وتردف: "لا أحد يصدّق أنّه يبلغ الآن من العمر أربعة أعوام".

تقطع نوبة بكاء شديد كلام والدة قصي، وهي تشدّ بقوّة أكبر على طفلها الذي تحتضنه. وتقول: "نحن عائلة فقيرة، لا نملك قوت يومنا. وقد أهملتُ (مضطرّة) صحتي في خلال الحمل وبعد الولادة. حتى في مرحلة الرضاعة، لم أكن أجد ما أتناوله من طعام، وهذا أثّر ذلك على صحة طفلي الذي استحال اليوم هيكلاً عظمياً". وتشير إلى أنّ "أملي كبير بالله، وبالأطباء ليساعدوا طفلي وينقذوه من خلال العلاج اللازم. أنا لا أحلم بشيء إلا برؤية طفلي كما الأطفال الآخرين؛ يركض ويلعب وهو بصحة جيدة". وتؤكد: "هذا كلّ ما أرجوه في الدنيا".
 

والصغير قصي حالة من بين مئات الحالات التي تخضع للعلاج في المستشفى اليمني السويدي للأمومة والطفولة في تعز، بسبب معاناته من سوء التغذية. وهو طفل من آلاف أطفال اليمن الذين يعانون من سوء تغذية حاد، والذين صار الموت يهدّد حياتهم في حال لم يتلقّوا العلاج اللازم بصورة عاجلة.
 

يقول رئيس قسم الاستشفاء في المنشأة الطبية المذكورة عادل الرصاص لـ"العربي الجديد" إنّ "عدد الحالات التي تصل شهرياً إلى القسم تتراوح ما بين 30 و40 حالة تقريباً، في حين يتراوح عدد الحالات التي تتلقّى علاجاً في البيت ولا تحتاج إلى عملية استشفاء ما بين 20 و30 حالة". يضيف أنّ "تزايد عدد الإصابات بسوء التغذية يأتي نتيجة عدد من العوامل، أبرزها عدم تلقّي الطفل التغذية الكافية، وعدم حصول جسده على ما يحتاجه من المغذيات، وذلك بسبب الأوضاع المعيشية المتردية جداً التي تعاني منها العائلات اليمنية، وسط الأزمة الإنسانية الناجمة عن الحرب في البلاد".
ويبيّن الطبيب المسؤول في المستشفى اليمني السويدي للأمومة والطفولة أنّ "حالات سوء التغذية سُجّلت في مختلف مديريات محافظة تعز، غير أنّ الإصابات تتركّز بصورة أساسية في المديريات الساحلية المخا والوازعية وموزع وذوباب بالإضافة إلى مديريتَي جبل حبشي والمعافر، ونحن هنا نستقبل حالات سوء التغذية إذ إنّنا مستشفى متخصّص في شؤون الطفولة والأمومة". ويشرح الرصاص أنّ "عند وصول حالة ما، يبدأ التعامل معها من خلال المعاينة والتشخيص، قبل أن يُصار إلى إدخالها إلى قسم الرقود (الاستشفاء) في حال استدع الأمر ذلك. بعد ذلك، يتابعها الطبيب المتخصص، ويُزوَّد الطفل المصاب بحليب خاص بعلاج سوء التغذية"، مشيراً إلى أنّ "ثمّة دوراً لوزارة الصحة ولمكتب الصحة في المحافظة يتمثّل في توفير الحليب الخاص للمرضى، مع العلم أنّ منظمات دولية تقدّم دعمها كذلك".

في سياق متصل، هذه المرّة في محافظة الحديدة الساحلية غربي اليمن، يعاني الطفل مجد الذي لم يكمل عامه الأول بعد من سوء تغذية حاد. يُذكر أنّ الصغير مجد أبصر النور في مديرية بيت الفقيه التي تُعَدّ من بين أكثر المناطق فقراً على مستوى البلاد ككلّ، في ظلّ وضع معيشي صعب تعانيه عائلته، الأمر الذي انعكس على وضع الرضيع الصحي. ويخبر والد مجد "العربي الجديد": "أنا رجل فقير ولا أقرأ ولا أكتب، وأحياناً أعمل حمّالاً وفي أحيانٍ أخرى في مجال البناء"، مؤكداً أنّ "ظروفنا المعيشية صعبة، إذ نتناول وجبةً واحدةً في اليوم وفي بعض الأحيان وجبتَين. وتتألّف وجباتنا في الغالب من الخبز والفاصولياء فقط".

والد مجد أنّ "حين أتى طفلي إلى الحياة، لاحظتُ أنّ وزنه غير طبيعي. وكلّما كبر أجد أنّ وزنه يقلّ، مع إصابته بإسهال حاد وتجفاف". ويتابع: "كنت أنظر إليه وأشعر بأنّه سوف يموت قريباً، لأنّ حالته كانت تزداد سوءاً، إلى أن رآه أحد الأشخاص من فاعلي الخير، فأعطاني مبلغاً من المال لأنقل الصغير إلى المدينة إذ ثمّة منظمة أجنبية تقدّم العلاج للأطفال المصابين بسوء التغذية. منذ ذلك الحين، راح يتلقّى العلاج اللازم وراحت حالته تتحسّن". ويكمل الوالد: "أتمنّى أن يتماثل للشفاء كلياً".
 

وتتزايد حالات سوء التغذية في اليمن في ظلّ عجز القطاع الصحي في البلاد عن أداء دوره في ما يتعلّق بعلاجها، لعدم توفّر المستشفيات والمراكز الطبية المتخصّصة وتلك المجهّزة بالكامل لذلك، بالإضافة إلى نقص الأدوية، في حين تشكو المنظمات الدولية من نقص في التمويل، الأمر الذي لا يكفيها لتغطية احتياجاتها.

ويؤكد متخصّص في طبّ الأطفال، في أحد مستشفيات محافظة ذمار جنوبي صنعاء الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، أنّ "السنوات الأخيرة شهدت تزايداً مخيفاً في عدد حالات سوء التغذية بين أطفال اليمن". يضيف الطبيب لـ"العربي الجديد"، مشترطاً عدم الكشف عن هويته، أنّ "سلطة الأمر الواقع تتحمّل مسؤولية ذلك بالدرجة الأولى. كذلك هي تتحمّل مسؤولية منع اللقاحات عن الأطفال في مناطق سيطرتها، الأمر الذي أدّى إلى انتشار الأمراض مثل الحصبة والكوليرا والإسهالات"، لافتاً إلى أنّ هذه "عوامل تزيد من حدّة حالات سوء التغذية". ويتابع الطبيب أنّ "قطع رواتب الموظفين والوضع المعيشي الناتج عن ذلك تسبّبا في أزمة غذائية حادة لدى العائلات اليمنية. وقد ارتفعت معدّلات انعدام الأمن الغذائي، وصارت عائلات كثيرة تعيش على وجبة واحدة في اليوم، وهذا سبب من أسباب تزايد سوء التغذية بين الأطفال".
 

في سياق متصل، تبيّن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) ومنظمة الصحة العالمية أنّ سوء التغذية بين أطفال اليمن يمثّل أزمة خطيرة واسعة النطاق، إذ يصيب نحو نصف الأطفال الذين هم دون سنّ الخامسة، علماً بأنّ الآلاف يعانون من سوء التغذية الحاد والوخيم. يأتي ذلك في حين أسفر الصراع المستمرّ في البلاد، منذ أكثر من عشرة أعوام، عن كارثة إنسانية تُعَدّ من بين الأسوأ في العالم، وفقاً لمنظمات دولية وأممية، فهو تسبّب في وضع اقتصادي وكذلك معيشي متردّيَين، ما انعكس على الأحوال المعيشية للعائلات اليمنية التي فقدت القدرة على الوصول إلى الغذاء والمياه النظيفة، بالإضافة إلى انهيار منظومة الرعاية الصحية في البلاد.
 

وكان وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية توم فليتشر قد كشف في مايو/أيار الماضي أنّ نصف أطفال اليمن البالغ عددهم 2.3 مليون يعانون من سوء التغذية، وأنّ من بين نصف هؤلاء الذين يعانون من سوء التغذية 600 ألف يعانون من سوء التغذية الحاد. وبيّن المسؤول الأممي أنّ 69% فقط من أطفال اليمن تلقّوا لقاحاتهم الأساسية كاملة، في حين أنّ 20% لم يتلقّوا أيّاً من اللقاحات على الإطلاق. ووصف فليتشر ذلك بأنّه أحد أسوأ المعدّلات في العالم. كذلك أشار إلى أنّ سوء التغذية يؤثّر على 1.4 مليون امرأة حامل ومرضعة، مشدّداً على أنّ هذا الوضع يعرّض الأمهات والمواليد الجدد لـ"خطر جسيم".

في هذا الإطار، أفاد تقرير صادر عن منظمة يونيسف، في مطلع العام الجاري، أنّ "وفقاً لأحدث تحليل لسوء التغذية الحاد في التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، ارتفع عدد الأطفال دون سنّ الخامسة الذين يعانون من سوء التغذية الحاد، أو الهزال، بنسبة 34% مقارنة بالعام السابق في كلّ المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة".

وتُعَدّ منظمة الصحة العالمية من أبرز المنظمات الدولية التي تعمل لتوفير الرعاية والتغذية التي يحتاج إليها الأطفال من أجل البقاء على قيد الحياة. وأوضحت، في تقرير صادر في خلال العام الجاري حول مكافحة سوء التغذية لدى أطفال اليمن، أنّها تعمل على "توفير الرعاية الطبية لـ31 ألفاً و220 طفلاً يعانون من سوء التغذية في 96 مركزاً للرعاية، وتدريب 1,546 من العاملين في مجال الرعاية الصحية لضمان حصول مزيد من الأطفال على العلاج الذي يحتاجون إليه بشدّة".

وكانت الحكومة اليمنية قد حذّرت، على لسان نائب وزير التخطيط والتعاون الدولي نزار باصهيب، في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، من أنّ "انخفاض عدد المانحين والتمويلات الخاصة بالأمن الغذائي سوف يؤدّي الى تفاقم مشكلات سوء التغذية". وأوضحت أنّ مواجهة تحديات سوء التغذية تتطلّب تكاتف الجهود الوطنية والدولية، وتعزيز الشراكة ما بين المنظمات الدولية والوكالات الأممية والقطاع الخاص والمجتمع المدني.