عمر الجاوي .. في ذكرى وفاته
د. هشام محسن السقاف**الايام
تتسع هوة البعد المادي لرجل كبير كان بحجم وطنه مثل الأستاذ الكبير عمر الجاوي دون أن تخسره الذاكرة الجمعية للأمة التي هي في مثل هذه الحالات تردد قول الشاعر القديم:
سيذكرني قومي إذا جدَّ جدّهم .. وفي الليلة الظلماء يفتقد البدرُ
لقد كان عمر الجاوي عنواناً بارزاً لمرحلة تاريخية هي الأكثر إثارة في تاريخ شعبنا، شهدت فيما شهدته تنامي الوعي الوطني والقومي والثوري بالخروج المتزامن من حقبة الاستعمار والإمامة والدخول في المرحلة الثورية ثم الدولة الوطنية التي اكتنفت حالاتها كثير من الإخفاقات وقليل من الإنجازات.
لن ندخل في تفاصيل الشخصية الكاريزمية لعمر وهو يدلف السياسة من بوابات الثقافة والأدب منذ الوهلة الأولى على زمن الخمسيني المفعم بالمتغيرات الكبرى، حين لا تساوره الظنون تجاه مبادئه الوطنية بالانحياز الكامل نحو الجماهير وتطلعاتها وطموحاتها في الحياه الجديدة، ومن ذلك نظرته ورؤاه لمسألة الوحدة اليمنية، واتخاذه المواقف الواعية تجاه الأنظمة المتقلبة في الشطرين التي حكمت إما بديكتاتورية الحزب الواحد في الجنوب أو بتحالف القبيلة والجيش في الشمال ودفعه إياهما نحو وحدة تحت مظلة الديمقراطية، ولذلك نتجاوز خفة البعض من أرباب اليسار المتمركس حين يرمي الجاوي بالرومانسية حيال نظرته تلك، بينما يذهبون هم أبعد من ذلك حين وضعوا العربة قبل الحصان.
الماركسية بانتصار أدواتها في الشمال كما هي قد ترسخت في الجنوب ليتم بعدها توحيد الإدارتين الحاكمتين في صنعاء وعدن ومن ثم إنجاز ذلك الفعل الوحدوي، وهي فكرة مراهقة تماماً لاستحالة التمكن الماركسي في مجتمعات شبه الجزيرة العربية، لأسباب اجتماعية ودينية واقتصادية.
والجاوي وإن كان قريباً من اليسار في اليمن سواء بقربه من الأستاذ عبدالله باذيب أو حتى أثناء نشاطه في حزب العمل وغيرها من الكيانات اليسارية يمتاز بطرحه الوطني فوق أو خارج الإيديولوجيا، ولذلك لم يصمد في أي من هذه التنظيمات ليبحث عن أدواته النضالية الأكثر ابتكاراً في العمل الوطني، وغير المعهودة عربيا إلا في اليمن عن طريق الجاوي، ونعني اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين.
إن كثيرا من وقائع الجمر التي خاضها الجاوي قبل وبعد تأسيس اتحاد الأدباء باتت معروفة لجيل بكامله ممن عاصروا الثورة وما بعدها في الوطن، بما في ذلك إسهاماته في الصحافة والإعلام والأدب، ناهيك عن العمل الوطني السياسي والنقابي وهو ما يتطلب تصديرا من نوع آخر في التاريخ الحي للأجيال الحالية واللاحقة عن طريق المناهج الدراسية والأكاديمية بدلاً من التدليس والتسييس لكثير من القضايا الخلافية التي زّجَ بها في منهاج التربية الوطنية والتاريخ وهي مغايرة تماماً للنظرة والرؤية الجمعية للشعب، وقد أتت نتاج قوة عسكرية باغية اجتاحت الجنوب في 1994م.
ولكي نفند ما قد يقع فيه البعض من لبس إزاء نظرة الجاوي للوحدة اليمنية وقد حمل لواءها دون خوف أو وجل، ولكنه وهو المدرك لطبيعة النظم الحاكمة المتأصل عرقها السياسي في الحكم عن طريق شمولية وديكتاتورية الممارسة والفعل، فإنه وقد ساهم في صياغة الدستور الوحدوي الذي وضع فيه المشرعون من ضوابط الحكم ما يحول بين الحاكم وهواه. وحتى هذا لم يكن ضامنا حقيقيا، إذ غُيرَّت مواد الدستور بما لم يعد رادعا لتفرد الحاكم بالسلطة، بسبب من طبيعة أدوات الحكم التي تم على يديها مسعى الوحدة وتحديدا جانب الجمهورية العربية اليمنية الذي عاد بالأمور إلى صيغتها الأولى بعد حرب 1994م.
وكنا قد رأينا الجاوي الكبير بعد الوحدة مباشرة يرفع شعار الديمقراطية كضامن حقيقي للوحدة بدونها لا يعدو أن يكون الأمر (جمع عسرين في آن)، وكان أن استهدفه البغي الحاكم باكرا برصاصات غادرة على باب عميد "الأيام" في صنعاء وراح ضحية الحادث شهيد الديمقراطية المهندس حسن الحريبي وكان ذلك أواخر العام 1991م.
وكان صوت الجاوي تتناقله وسائط الإعلام العالمية يوم 1994/7/7م واصفا ما يحدث لـ(عدن بالاجتياح البربري)، منددا بالسلب والنهب والفيد الذي تعرضت له المدينة الباسلة. وسخر مقالاته في (التجمع) وسواها ومحاضراته ونشاطه السياسي لتفنيد الحالة المأساوية التي ألمت بالجنوب جراء هذه الحرب العدوانية، وكانت مقالته ذائعة الصيت (سقوط الشرعية في المكلا) تفضح أساليب العدوان وتعريه مما عرض صحيفته (التجمع) للإغلاق التعسفي ووزعت مقالته تلك على نطاق واسع بعد أن صورت وبيعت في أكشاك الصحف.
وكان أليقاً بفعله الشجاع لفضح أركان الحكم الأسري والعشائري القائم عندما شرح مَنْ يحكم اليمن في يوم من أيام شهر يوليو 1997م، في محاضرة ألقاها في حوطة لحج، وكانت ـ كما أظن ـ آخر ما ألقاه الجاوي محاضرا قبل وفاته عصر يوم 23 ديسمبر 1997م.
رحم الله صوت التوعية الوطنية عمر عبدالله الجاوي.
تتسع هوة البعد المادي لرجل كبير كان بحجم وطنه مثل الأستاذ الكبير عمر الجاوي دون أن تخسره الذاكرة الجمعية للأمة التي هي في مثل هذه الحالات تردد قول الشاعر القديم:
سيذكرني قومي إذا جدَّ جدّهم .. وفي الليلة الظلماء يفتقد البدرُ
لقد كان عمر الجاوي عنواناً بارزاً لمرحلة تاريخية هي الأكثر إثارة في تاريخ شعبنا، شهدت فيما شهدته تنامي الوعي الوطني والقومي والثوري بالخروج المتزامن من حقبة الاستعمار والإمامة والدخول في المرحلة الثورية ثم الدولة الوطنية التي اكتنفت حالاتها كثير من الإخفاقات وقليل من الإنجازات.
لن ندخل في تفاصيل الشخصية الكاريزمية لعمر وهو يدلف السياسة من بوابات الثقافة والأدب منذ الوهلة الأولى على زمن الخمسيني المفعم بالمتغيرات الكبرى، حين لا تساوره الظنون تجاه مبادئه الوطنية بالانحياز الكامل نحو الجماهير وتطلعاتها وطموحاتها في الحياه الجديدة، ومن ذلك نظرته ورؤاه لمسألة الوحدة اليمنية، واتخاذه المواقف الواعية تجاه الأنظمة المتقلبة في الشطرين التي حكمت إما بديكتاتورية الحزب الواحد في الجنوب أو بتحالف القبيلة والجيش في الشمال ودفعه إياهما نحو وحدة تحت مظلة الديمقراطية، ولذلك نتجاوز خفة البعض من أرباب اليسار المتمركس حين يرمي الجاوي بالرومانسية حيال نظرته تلك، بينما يذهبون هم أبعد من ذلك حين وضعوا العربة قبل الحصان.
الماركسية بانتصار أدواتها في الشمال كما هي قد ترسخت في الجنوب ليتم بعدها توحيد الإدارتين الحاكمتين في صنعاء وعدن ومن ثم إنجاز ذلك الفعل الوحدوي، وهي فكرة مراهقة تماماً لاستحالة التمكن الماركسي في مجتمعات شبه الجزيرة العربية، لأسباب اجتماعية ودينية واقتصادية.
والجاوي وإن كان قريباً من اليسار في اليمن سواء بقربه من الأستاذ عبدالله باذيب أو حتى أثناء نشاطه في حزب العمل وغيرها من الكيانات اليسارية يمتاز بطرحه الوطني فوق أو خارج الإيديولوجيا، ولذلك لم يصمد في أي من هذه التنظيمات ليبحث عن أدواته النضالية الأكثر ابتكاراً في العمل الوطني، وغير المعهودة عربيا إلا في اليمن عن طريق الجاوي، ونعني اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين.
إن كثيرا من وقائع الجمر التي خاضها الجاوي قبل وبعد تأسيس اتحاد الأدباء باتت معروفة لجيل بكامله ممن عاصروا الثورة وما بعدها في الوطن، بما في ذلك إسهاماته في الصحافة والإعلام والأدب، ناهيك عن العمل الوطني السياسي والنقابي وهو ما يتطلب تصديرا من نوع آخر في التاريخ الحي للأجيال الحالية واللاحقة عن طريق المناهج الدراسية والأكاديمية بدلاً من التدليس والتسييس لكثير من القضايا الخلافية التي زّجَ بها في منهاج التربية الوطنية والتاريخ وهي مغايرة تماماً للنظرة والرؤية الجمعية للشعب، وقد أتت نتاج قوة عسكرية باغية اجتاحت الجنوب في 1994م.
ولكي نفند ما قد يقع فيه البعض من لبس إزاء نظرة الجاوي للوحدة اليمنية وقد حمل لواءها دون خوف أو وجل، ولكنه وهو المدرك لطبيعة النظم الحاكمة المتأصل عرقها السياسي في الحكم عن طريق شمولية وديكتاتورية الممارسة والفعل، فإنه وقد ساهم في صياغة الدستور الوحدوي الذي وضع فيه المشرعون من ضوابط الحكم ما يحول بين الحاكم وهواه. وحتى هذا لم يكن ضامنا حقيقيا، إذ غُيرَّت مواد الدستور بما لم يعد رادعا لتفرد الحاكم بالسلطة، بسبب من طبيعة أدوات الحكم التي تم على يديها مسعى الوحدة وتحديدا جانب الجمهورية العربية اليمنية الذي عاد بالأمور إلى صيغتها الأولى بعد حرب 1994م.
وكنا قد رأينا الجاوي الكبير بعد الوحدة مباشرة يرفع شعار الديمقراطية كضامن حقيقي للوحدة بدونها لا يعدو أن يكون الأمر (جمع عسرين في آن)، وكان أن استهدفه البغي الحاكم باكرا برصاصات غادرة على باب عميد "الأيام" في صنعاء وراح ضحية الحادث شهيد الديمقراطية المهندس حسن الحريبي وكان ذلك أواخر العام 1991م.
وكان صوت الجاوي تتناقله وسائط الإعلام العالمية يوم 1994/7/7م واصفا ما يحدث لـ(عدن بالاجتياح البربري)، منددا بالسلب والنهب والفيد الذي تعرضت له المدينة الباسلة. وسخر مقالاته في (التجمع) وسواها ومحاضراته ونشاطه السياسي لتفنيد الحالة المأساوية التي ألمت بالجنوب جراء هذه الحرب العدوانية، وكانت مقالته ذائعة الصيت (سقوط الشرعية في المكلا) تفضح أساليب العدوان وتعريه مما عرض صحيفته (التجمع) للإغلاق التعسفي ووزعت مقالته تلك على نطاق واسع بعد أن صورت وبيعت في أكشاك الصحف.
وكان أليقاً بفعله الشجاع لفضح أركان الحكم الأسري والعشائري القائم عندما شرح مَنْ يحكم اليمن في يوم من أيام شهر يوليو 1997م، في محاضرة ألقاها في حوطة لحج، وكانت ـ كما أظن ـ آخر ما ألقاه الجاوي محاضرا قبل وفاته عصر يوم 23 ديسمبر 1997م.
رحم الله صوت التوعية الوطنية عمر عبدالله الجاوي.