أم مكلومة بعدن تروي قصة ألمها باستشهاد ولديها في مأرب

تقرير/ وئام نجيب

لا يوجد ابتلاء أشد من موت الابن، فهو نار في القلب لا تنطفئ مهما مر الزمن، وحزن لا ينقص فما بالك بأن يفارق الحياة شقيقان بنفس اليوم، كمية وجع لا توصف. هذه المصيبة حلّت مؤخراً على أحدى الأسر في عدن، إثر القصف الصاروخي على معسكر بمأرب والذي راح ضحيته (116) شهيد وما يزيد عن 60 جريح. ترددت كثيراً عند زيارتي لمنزل الشهيدين، لصعوبة موقف الأسرة المكلومة. "لم يتبقَ لي سوى رسائل نصية وتسجيلات صوتية احتفظت بها في جوالي، للشهيدين زكي ووجيه أثناء تواصلهما معي للاطمئنان عليّ"، بهذه العبارة اختصرت الأم قصة حزنها في آخر تواصل بينها وبين فلذتي كبدها. زكي ووجيه فيصل قائد، من أبناء منطقة حي الشيخ إسحاق في المعلا بالعاصمة عدن، شقيقان، كان يظنهم الكثير بأنهما توأم لارتباطهما الوثيق ببعضهما وعدم افتراقهما في معظم الأوقات، وحتى بالصور التي كانوا يلتقطونها معاً كانت بمثابة الشخص وظله. كانت أمنيتهما الشهادة فتحققت لهما، إذ ارتقيا شهيدين في وقت واحد وشيعا إلى مثواهما الأخير معاً. التيشرت الذي ارتداه الشهيد وجيه عند سفره وأخاه إلى شبوة التيشرت الذي ارتداه الشهيد وجيه عند سفره وأخاه إلى شبوة رحل الشهيدان تاركان خلفهما أب مكلوم لم تجف

دموعه يردد على الدوام بأنه راضٍ بقضاء الله وقدره، وأم صابرة على ألم الفراق، وأشقاء سته لم يستوعوا الأمر الجلل بعد

. █ بداية الوجع جوال الشهيد جوال الشهيد تقول الأم المكلومة لـ«الأيام»: "رحلا ولديّ وهما في مقتبل العمر، زكي (21 عام)، وجيه (18 عام)، مضيفة: "بدأت قصة معاناتي حينما ذهبا في المرة الأولى إلى محافظة شبوة معاً لاستلام راتبيهما، كونهما من منتسبي اللواء الرابع حماية رئاسية، وعادا وقتها إلى عدن سالمين، وفي المرة الثانية توجها إلى مقر الصرف في عدن لاستلامهم الراتب، ولكنهما وجدا بأن رواتبهما في الكشوفات صفر، وأفادوهما بأن عليهما التوجّه إلى شبوة مرة أخرى لاستلامه، وعلى الفور قررا السفر إلى شبوة في الثامن عشر من ديسمبر العام الماضي ولكن في هذه المرة شعرا بأنهما يودعونا إذ احتضناني بشدة، وقالا لي: "سنذهب يا أمي ولكن في هذه المرة سيكون لنا نصيب بالزواج من حور العين إن شاء الله"، كان حينها قد ارتدى ابني وجيه (جرم) عليه صورة شهيد استشهد في حرب 2015 بعدن، ومن ثم ذهبا إلى شبوة وقلبي معلق بهما، وتحصلا على راتبيهما قبل أن يرسلان به إلينا.. وبحسب ما اخبرني ولدي عند اتصاله بي بأنه جاءت توجيهات بنقلهم ورفاقهم إلى مأرب لإجراء تدريبات فيها لكون محافظة شبوة غير آمنة، وبالفعل تم نقلهم إلى مأرب في الثاني والعشرين من ديسمبر العام الماضي". تضيف الأم: "ولدايّ تمنيا الشهادة ونالاها.. وقد قام ولدي زكي بعد تحرير عدن بإنشاء جروب في "الواتسأب" سخره للشهداء وكان يعمل فيه صور الشهداء الجنوبيين الذي يستشهدون بالجبهات مدعومة بمعلومات عنهم، وهنا لا أنسى بأنهما تربيا منذ صغرهما وهما معلقان بالمسجد، وكانت خاتمتهما أيضاً أن يستشهدا وهما في المسجد". رسائل لا تزال الأم محتفظة بها رسائل لا تزال الأم محتفظة بها

█ اليوم المشؤوم وبتنهيدة عميقة والحزن يعتصر قلبها، تتابع قائلة: "في اليوم الأليم الذي تمت فيه الحادثة، والذي صادف الثامن عشر من يناير من الشهر الجاري، اتصل بي وجيه في وقت الظهيرة من تلفون القائد، نتيجة لسحب تلفوناتهم عند دخولهم للمعسكر، وفي المكالمة سألني عن أحوالنا وطمأنني عن أحواله وشقيقه، وأخبرني بأنه كان من المفترض أن يجري تحويلهم إلى معسكر آخر في مأرب ذاتها، ولكنه تم تأجيل عملية النقل.. ولم يتوقف وجيه من طلبه لي بأن أزيد من الدعاء له ولزكي، وطيلة المكالمة كان قد بدا عليه التأثر والبكاء ويوصيني بأن أكون مرتاحة على الدوام وأن لا أحمل همّ، فيما كنت أدعي لهما باستمرار، راجية من الله أن يحفظهما واستودعهما الله، وآخر ما قلت له بأن الخيرة فيما اختاره الله لكما، فيما كان رده لي: ونعم بالله"، مضيفة: "بهذه الكلمات انتهى كل شيء، وبحسب ما وصلنا بعد ذلك بأن ولديّ ذهبا ورفاقهما لإقامة صلاة المغرب في مسجد داخل معسكر الاستقبال الذي كانوا فيه وأجرى إمام المسجد خطبة بعد الانتهاء من الصلاة، وأثناء الخطبة أتى الصاروخ للمسجد وأنهى حياة العديد ممّن هم في عمر الزهور، واستشهد ولداي وعرفوهما وميزوهما، لأنهما كانا بجانب الآخر". منزل اسرة الشهيدان منزل اسرة الشهيدان

█ صدمة وبعد صمت لبرهة من الوقت، واصلت الأم سرد قصتها الأليمة لـ«الأيام» بالقول: "عرفنا خبر استشهاد فلذات كبدي، حينما اتصل في ذات اليوم شقيقي بولدي الأكبر عوض (25 عام)، وقتها كان بعمله في مديرية خور مكسر، وقال له: إخوانك شهداء، ولكن لم يتم التأكد بخبر استشهاد أخيك وجيه، فربما يكون قد أُصيب فقط. لم يستوعب عوض نبأ الاستشهاد وخرج من خور مكسر إلى الشيخ إسحاق بالمعلا، حيث يقع منزلنا مشياً على الأقدام، قطع عوض كل هذه المسافة بغير هدى منه وغير مستوعب لهول الفاجعة، وأول ما وصل إلى المنزل لم يكلمني كعادته، ونادى على أخوه الذي يصغره بعامين بأن يعطيه رقم جوال الفندم الذي يتواصل منه إخوانه، حينها شعرت بأن ولديّ في خطر وقلت لابنتي افتحي "قناة الحدث" وبعدها قرأت خبر قصف مسجد يقع داخل معسكر الاستقبال في مأرب حيثما يوجد ولداي، صرخت قائلة: عيالي ماتوا.. وبعد أن تأكدنا من نبأ الاستشهاد كنت كالمجنونة أطوف في المنزل ودخلت ابنتي في غيبوبة استمرت لأيام، وفي الواحد والعشرين من يناير الجاري وصلت جثتا ولديّ إلى المنزل وكانت سليمة ولم تكن متفحمة، حسبما أشيع في مواقع التواصل الاجتماعي، وأطلب من «الأيام» نشر صورتهما لتوضيح الأمر، وتم تشييع جثمانيهما في موكب جنائزي مهيب، ظنه المارة مسيرة إلى مثواها الأخير بعد صلاة العشاء في مقبرة الرضوان في مديرية دار سعد، وتم دفنهما بجانب بعض، وما زلت احتفظ بجوالاتهما، وقد عُثر على هاتف زكي في جيب بنطلونه الذي كان يرتديه يوم استشهاده، وكان قد أخفاه لكي يتمكن من التواصل معي

". █ رسالة اختتمت الأم حديثها لـ«الأيام» بالدعاء على المتسببين بحرمانها من ولديها قائلة: "حسبنا الله ونعم الوكيل، ربي يوريني يوم أليم لكل من تسبب في حرق قلوب الأمهات على أولادهم، الله يُمهل ولا يهمل، الله يهلك الجهة المتسببة بذلك أياً كانت، وسنظل ندعي عليهم مهما حيينا"، مطالبة في السياق ذاته بفتح تحقيق عاجل وفوري والكشف عن المتسببين ومحاسبتهم دون تهاون. موكب تشييع جثماني الشهيدين موكب تشييع جثماني الشهيدين وبقلب مؤمن بقضاء الله تقول: "لن أطلب من الأمهات منع أبنائهن من الذهاب إلى الجبهات ولكن على الحكومة والقادة العسكريين أن يفقهوا بأن أولادنا أمانة في أعناقهم وعليهم الانتباه وأخذ الحيطة والحذر، لاسيما في المعسكرات ومواقع تجمع الجنود".

█ شاهد عيان أحد الناجين من التفجير أفاد لـ«الأيام» بتفاصيل جديدة حول الحادثة قائلاً: "في اليوم المشؤوم وبينما كنا في المسجد نستمع لخطبة أجريت بعد صلاة المغرب، رأيت شخصاً خرج من المسجد وكانت حركته غريبة ومريبة، وبعد ربع ساعة من خروجه وقعت الفاجعة، وقتها لم أرَ أمامي سوى دخان كثيف وجثث متطايرة وجرحى يصرخون وآخرين يفرون من المسجد للنجاة بحياتهم، فيما حالت إصابتي دون مقدرتي على القيام بإسعاف رفاقي". وأضاف الناجي، والذي طلب عدم ذكر اسمه بالقول: "الصاروخ وقع في جهة اليمين من المسجد والشقيقان (زكي ووجيه) كانا بجهة الميمنة، وحتى الآن لم استوعب بأنني نجيت من التفجير لهول ما رأيت حينها، فإصابتي كانت عبارة عن شظايا طالت أجزاء متفرقة من جسدي".صحيفة الأيام