قصة وتفاصيل أول معركة يوم 14 أكتوبر 1963م.. عاد لبوزة ومجاميعه من الشمال إلى ردفان فطلب منهم (ميلن) تسليم أنفسهم فردوا عليه برسالة بداخلها طلقة رصاص
في مثل هذا اليوم الـ 14 من أكتوبر من عام 1963م انطلق ضوء الفجر من على سفوح وقمم جبال ردفان الشامخة.. انطلق بالبشارة الأولى لميلاد ثورة شعب الجنوب الذي ظل يرزح تحت وطأة الذل والقهر والعبودية جراء هيمنة المستعمر البريطاني على وطن الجنوب لما يقرب من (129) عاماً، انطلق فجر الحرية والانعتاق في ذلكم اليوم المشهود، وهناك الثوار الميامين الذين استقبلوا ذلك الفجر ليصنعوا منه ألف فجر، وليلتها كانت ردفان تتراقص على أزيز طلقات أسلحتهم وتحت ضياء لعلعات رشاشاتهم الوهاجة. وفي ذلك الفجر (فجر 14 أكتوبر) استيقظ الشعب واستيقظ فيه كل الغضب في كل مدينة وريف من أرض الجنوب.. صحى الشعب على فجر ثورة غاضبة زعزعت عرش المستعمر البريطاني وزعزعت أركان المشيخات والسلطنات التابعة له. ومن قلب مدينة تعز دوى البيان الأول بإعلان الرئيس قحطان محمد الشعبي بيان الثورة الأول.. بيان إعلان بداية الكفاح المسلح ضد المستعمر البريطاني وبدء النضال بكل أشكاله من أجل تحرير جنوب اليمن المحتل، فرددت حناجر الشعب بصوت واحد كلمات بيان الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل في مختلف أرجاء الوطن، ومن قرى وسهول تعز تدفقت الإمدادات بالزاد والعتاد للمناضلين في مختلف جبهات الكفاح المسلح في مناطق الجنوب، فتحولت تعز وقعطبة والصبيحة إلى ممرات عبور لكل ما يحتاجه الثوار، فمن تعز بدأت إرهاصات الثورة الأكتوبرية ومنها تحركت مجاميع الثوار بقيادة شهيدها الأول راجح بن غالب لبوزة، وفي شارع 26 سبتمبر في تعز وقف المناضل عوض الحامد ماسكاً بالميكروفون مبشراً الجماهير باندلاع ثورة الجنوب وبدء الكفاح المسلح ضد المستعمر البريطاني وأعوانه. *البداية الأولى للثورة عاد المناضل راجح لبوزة ومجاميعه من الشمال بعد أن ساهموا مساهمة فعالة في الدفاع عن ثورة سبتمبر وخاضوا المعارك الشرسة ضد الملكيين في مختلف المناطق وقدموا هناك عشرات الشهداء ومئات الجرحى.. عاد لبوزة ومجاميعه بأسلحتهم وبعدد من القنابل والألغام والذخائر وغيرها، وفور وصولهم إلى ردفان وجه إليهم الضابط السياسي البريطاني في الحبيلين (ميلن) رسالة مستعجلة يدعوهم فيها إلى سرعة تسليم أنفسهم واسلحتهم إلى السلطات البريطانية في الحبيلين، وعند وصول الرسالة اجتمع راجح لبوزة بكل المناضلين من حوله وأبلغهم بطلب (ميلن) وطلب منهم إبداء الرأي فأجمع الثوار على عدم تلبية هذا الطلب وتعاهدوا على مقاتلة المستعمر البريطاني، ومن ثم قام لبوزة بإرسال رسالة الرفض ووضع بجانب الرسالة طلقة رصاص، تعبيراً عن مقاتلة القوات البريطانية، ومن ثم عمد لبوزة إلى وضع خطته العسكرية واستعد الثوار مع قائدهم وتوزعوا إلى مجاميع صغيرة يراقبون تحركات العدو بكل جدية وأياديهم على الزناد وهم تواقون للقاء العدو ولخوض معركة العزة والكرامة والفداء. *تقسيم المقاتلين إلى أربع مجموعات وعند الفجر الأول ليوم 14 أكتوبر وعندما بدأ الصباح يرسل أشعته الذهبية كان المقاتلون من أبناء ردفان قد سبقوا تلك الأشعة في النهوض من مراقدهم واستعدوا للقاء العدو، ولم يطل انتظارهم، فعند الساعة الثامنة من ذلك الصباح شاهدوا أشعة الشمس تلمع في زجاجات السيارات البريطانية في مدخل وادي (المصراخ) على بعد نحو (8 كيلو متر) فاستعدوا لبدء المعركة وأسرع لبوزة لتنفيذ خطة المعركة التي رسمها، فقسم الثوار الذين يزيد عددهم عن (70) مقاتلاً إلى أربع مجموعات وحدد لكل مجموعة مهامها ومواقعها وقائدها على النحو الآتي: المجموعة الأولى: وعددها (15) مقاتلاً بقيادة ابنه بليل لبوزة ومهمتها النزول من رأس جبل البدوي والتمركز في القمة التي على يمين قرية البيضاء في وسط سيلة وادي (المصراخ) وهي الفصيل الصدامي الأول مع العدو أثناء عبوره لوادي المصراخ من اتجاه اليسار. المجموعة الثانية: وعددها (15) مقاتلاً بقيادة محسن مثنى حسين الغزالي، ومهمتها التمركز في أسفل جبل البدوي منطقة (الصرافة) وتكن خلف المجموعة الأولى يسار العدو للدفاع عن المجموعة الأولى. المجموعة الثالثة: وعددها حوالي (20) مقاتلا بقيادة راجح لبوزة ومهمتها السير باتجاه الغرب على رأس سلسلة (البدوي) والنزول إلى ثلث الجبل لتطويق العدو وعدم السماح لقواته بالانسحاب. المجموعة الرابعة: وعددها (15) مقاتلاً وهمتها البقاء في رأس جبل البدوي، ومراقبة الوضع، وهي قوة احتياطية للمجوعتين الأولى والثانية في حالة اجتياز العدو لهما، واستقبال الوافدين من الثوار. *بدء سير المعركة وعند الساعة التاسعة صباحاً قامت طائرتان بريطانيتان من طراز (هوكر هنكر) بالتحليق فوق المنطقة بغرض استطلاع مواقع الثوار، وفي الساعة العاشرة كانت مجاميع الثوار قد تمركزت في المواقع المحددة لها، وفي هذا الوقت كانت مقدمة الجيش البريطاني على بعد نحو (400 متر) من قرية البيضاء التي تتمركز على يسارها المجموعة الأولى بقيادة بليل لبوزة، فسمعت إطلاق نار صادر من المجموعة الثانية ، وعلى أثر ذلك أطلقت المجموعة النار على مقدمة القوات المعادية من أجل عدم السماح لها بالانتشار وتصدت لها بكل بطولة، ولم تستطع القوات البريطانية تجاوز قرية البيضاء، وفي هذا الأثناء شاهدت المجموعة الثالثة بقيادة راجح لبوزة الاشتباكات بين المجموعة الأولى والبريطانيين قامت بإطلاق النار على مؤخرة الجيش البريطاني، حينها قامت القوات البريطانية التي تسير بعد المقدمة بالانتشار على يسار ويمين قرية البيضاء وتقدمت الدبابات الخفيفة من نوع (فيرت) لاحتلال القرية حتى وصلت على بعد عشرات الأمتار من موقع المجموعة الأولى وبدأت الرمي على قرية البيضاء بمدافع الهاون.. وبعد دقائق من بدء المعركة بدأت مدفعية الجيش البريطاني الثقيلة من عيار (105) مم والتي كانت تحتل مواقعها النارية في شعب (المشتر) بالقصف المكثق على الثوار وبتركيز على المجموعة الثالثة التي يقودها راجح لبوزة في أكمة (الضاجع) والواقعة في ضلع جبل البدوي.. واستمرت المعركة على أشدها بين الطرفين فلم تستطع القوات البريطانية التقدم متراً واحداً فاضطرت مقدمة القوات البريطانية أمام مقاومة لثوار إلى الانسحاب إلى الخلف.. وعندما شاهد لبوزة ومجموعته تراجع البريطانيين فتقدم من موقعه إلى موقع آخر أكثر إطلالاً على مؤخرة العدو لعدم السماح لهم بالانسحاب، وبعد استمرار المعركة بين المجموعة الأولى ومقدمة الجيش البريطاني لأكثر من ساعة ونصف، أي في حوالي الساعة الحادية عشرة قامت سرية جيش (الليوي) التي تسير بعد المقدمة بالهجوم باتجاه قرية البيضاء تحت تغطية مدفعية الهاون تتقدمها الدبابات نوع (فيرت) حتى وصلت إلى مشارف القرية فلم تستطع اجتيازها بفضل صمود الثوار مما اضطرها للانسحاب في الساعة الثانية عشرة ظهراً إلى مواقع خلفية، فاستمرت المعركة بين الطرفين عن بعد ولا سيما من قبل القوات البريطانية التي اعتمدت في قتالها على قصف المدفعية والدبابات، وعندما تقدم لبوزة إلى موقع آخر أكثر إطلالاً على مؤخرة القوات البريطانية بعد مشاهدته تراجع القوات البريطانية، عندها عاودت القوات البريطانية القصف المدفعي المكثف على مواقع المجموعة الثالثة التي يقودها راجح لبوزة، فتقدم راجح على مجموعته بنحو (100 متر) ومعه أحد رفاقه (سعيد حسن) الذي اقترح على لبوزة بالانسحاب إلى الموقع السابق، فرد عليه لبوزة: (إذا انسحبت خطوة واحدة إلى الخلف فسوف ينسحب البقية ألف خطوة، وأنا عمري كله لم أنسحب في أية معركة وما شاء الله سيكون) وعند الساعة الحادية عشرة ظهراً أصيب موقع لبوزة بخمس قذائف مدفعية متتالية، وكان لبوزة في ذلك الوقت يطلق النار من خلف صخرة صغيرة من بندقيته زاكي كرام (عيلمان) فأصيب بشظية قذيفة مدفع في جنبه الأيمن تحت الأبط مخترقة جسده حتى الجانب الأيسر على موقع القلب، كما أصيب رفيقه سعيد بشظايا فأغمي عليه دقائق ثم أفاق فنظر إلى لبوزة وهو ينزف ويحتضر فحاول أخذ السلاح من يده فلم يستطع من شدة قبضته على البندقية فقام بسحب جسده كاملاً فلفظ راجح لبوزة أنفاسه الأخيرة فغطاه بعمامته بعد أن يمنه. استشهد راجح بن غالب لبوزة عن عمر بلغ (46) عاماً وهو يرتدي معطفاً أغبر وفوطة غبراء وعمامة غبراء وعلى خصره حزام فيه (100 طلقة) رصاص واثنتان من القنابل وبندقية زاكي كرام (عيلمان) و (300) طلقة رصاص احتياط، ولم يكن محتزماً بخنجره (الجنبية) كعادته، وكان استشهاده في يوم الإثنين 14 أكتوبر 1963م الموافق (26) جماد الأول 1383هـ، فكان أول شهيد لمسيرة ثورة انطلقت من جبال ردفان بقيادته، فواصل رفاقه النضال من بعده وامتدت الثورة إلى جميع مناطق الجنوب المحتل. ظلت جثة الشهيد راجح في مكان استشهاده حتى الساعة الثالثة عصراً، وتم نقله إلى رأس قمة الضاجع بجبل البدوي.. ونظراً لصعوبة المنطقة وعدم توفر وسيلة نقل وصل إلى هذا الموقع في الخامسة عصراً وتم إرسال أشخاص إلى المجموعات الأخرى. لإخبارها باستشهاده، فتجمع الثوار عند الساعة السادسة مساءً وقاموا بنقله إلى منطقة عقيبة (جبل الذنب) ليصلوا إلى هناك الساعة الثانية عشرة منتصف الليل، فقرر ابنه بليل لبوزة دفنه في تلك المنطقة بجانب قبري أعز صديقين له وهما منصر محمد مقبل وشائف محمد مقبل، وحضر مراسم دفنه جمع كبير من رجال ونساء قدر بأكثر من ألف شخص بعضهم حضروا من مناطق بعيده وعلى قبر تعاهد الثوار وبصوت واحد بمواصلة مشوار الثورة التي قادها واستشهد من أجلها راجح بن غالب لبوزة (ألف رحمة عليك أيها الشهيد راجح لبوزة).