فصل المقال فيما كان وما حدث وما يٌقال ولا شيء تحت الستار!
في تأمل نتائج العنف والانهيار والارتهان والاغتيال والانفعال! مقال نشرته قبل خمس سنوات بعنوان: العنف والسلطة أو زوال السياسة ! ( السياسة _ في كل الازمان _ جعلت الناس مجانيين أو متوحشين أو بكلمة واحدة فاقدي العقل ) دوبرية بين العنف والسلطة علاقة جدلية تفاعلية تبادلية ؛ فهما منفصلان ومتصلان في آن واحد بحيث تتأسس الثانية على توقف الأول والعنف هو اولاً قبل- سياسي لأنه يشير الى الوضعية التي تسبق ظهور سلطة سياسية ما, تلك هي المشكلة التي استقطبت اهتمام كل من هوبز وروسو وكلاستر، وهو _ العنف_ ثانياً ضد - سياسي لأنه ينذر بدون توقف بانهيار النظام السياسي وهو اخيراً ما بعد - سياسي لأنه يبعد السياسية عن السلطة وينقل مركز القوة والنفوذ الى دوائر آخرى خارج المجال السياسي وقواعد لعبته المدنية إذ تأخذ صور شتى ؛ اقتصادية وتقنوية وبربرية وفوضوية تجعل تحقق المواطن والمواطنة في المجتمع امراً مستخيلاً. ورغم هذا التعارض بين السلطة السياسية والعنف من حيث الماهية، فإن العنف يجد نفسه تجريبياً مقترناً دائماً بالسلطة ومتداخلاً معها إذ يشغل مكانة داخلها، وداخل السياسة بما هي علاقات قوى تنافسية واستراتيجات مصالح متصارعة وهذا ما يظهر بقوة في مقدمة ابن خلدون وفي اعمال نيقولا ميكافيللي، الذي كان أول من حدد تقديرهما اي «العنف والسلطة» باكبر قدر ممكن من الدقة لا سيما في كتابه الشهير الأمير انجيل السياسية الحديثة إذ أن تقدير كمية العنف والسلطة هو ما يؤسس في نظره السياسة والمجال السياسي المستقل بقوانينه الخاصة ويتعلق الامر هنا بمقدار ما تحتاجه السلطة السياسية من العنف للحفاظ على السياسية، دون الخطأ في تقديره لأن الافراط في مقدار العنف يلغي السلطة فعلاً ويهدد السياسة والنظام السياسي بالتفكك والاضمحلال وبالزوال , وهذا هو معنى قول ابو الحسن الماوردي ( لا تدوم الدول الا بعدل صحيح وأمن راسخ وأمل فسيح ) الاحكام السلطانية . وبالنسبة للسلطة الساسية يأخذ العنف ثلاث صور اساسية : فهو اولاً تهدد استيهامي دائم يلازمها _ السلطة _ حتى خلال لحظاتها الاكثر هدوء وصفاء اذ ان العنف يسكن السلطة بصورة خيالية أو واقعية كتهديد متعدد الاشكال وككابوس مقيت ومفزع منذ البداية وان لم يتطابق مع اي شيء في الواقع وهكذا يمكن القول بأن العنف يقيم منذ البداية داخل السلطة على شكل تهديد غير واضح قل غامض ومخيف.. ويمثل العنف ثانياً، هذا القصور الذي يجب على السلطة ان تتعايش معه، وان تصارع ضده لأنه بما يمكنها من جعله تحت السيطرة لان انفلاته منها معناه انحلال تدريجي وانهيار محتوم بحيث تكون الاسباب المعجلة بزوالها هي داخلية بالاساس كما يشهد بذلك تاريخ النظم السياسية منذ القدم , ولا نروح بعيد ولدينا شواهد كثيرة من واقاعنا الراهن , دول المعسكر الاشتراكي الشمولية التي نخرها العنف والعنف المضاد حتى النخاع , الدكتاتوريات العربية في العراق صدام وليبيا القذافي ومصر مبارك وسوريا الاسد وصنعاء سنحان والصومال وافغانستان ... الخ وقانون السياسة هو من لم يستطع حكم نفسه حكمه الاخر ومن دعى الجن اتوه كما يقول المثل العامي , ولا سلطة بدون سيادة كاملة وهذا هو حال المجتمعات العربية اليوم مع قوى الهيمنة العالمية القابضة !! وفي هذا السياق يمكن الاشارة الى ما كتبه كل من افلاطون وارسطو ومونتسيكو حول الاعراض المرضية للانظمة السياسية وحول ميلها الذي لا يقاوم نحو الانهيار والهلاك، اذ ان السياسة مثل الحياة عبارة عن صراع ضد الفساد والمرض والفوضى والعجز والتدهور والانحلال. ثالثا: واخيراً يأخذ العنف بالنسبة للسلطة صورة التهديد الخارجي كالحروب الداخلية والخارجية بمختف انواعها والثورات العنيفة والشعبية العارمة وحالات فقدان السيادة وكل حوادث العنف الفعلية والرمزية التي تصيب الكيانات السياسية المختلفة التي بامكانها ان تفت في عضدها وتضعفها وتقوضرتها كما هو حال كيانات السلطات العربية الهشة التي تطايرت شذر مذر مع هبوب رياح التغيير العاصفة التي اخذت تعصف بالمنطقة العربية منذ ثلاث سنوات فقط !!! وهكذا كما يرى- (روبير رديكو)- تجد السلطة السياسية نفسها امام الرهان الآتي: الرد على كل انواع العنف مع الاحتفاظ لنفسها بوضعية التعالي على كل هذه الانواع بقية عدم الدخول بتاتاً في منافستها لأن من شأن هذه المنافسة ان تعري السلطة وتظهر ان الحق الشرعي الذي تستند عليه هو حق الاقوى لا قوة الحق ، ان السلطة يجب الا تظهر بمظهر من يستخدم العنف العاري بل بمظهر القوة القائمة بدقة على الحق وهذا هو ما قصده ماكس فيبر, بالشرعية العقلانية للسلطة السياسية او «بالعنف المشروع» حتى في الحالات الصعبة لا تستطيع السلطة في أية حالة ان تستسلم للعنف العاري _بل لا يجوز لها ذلك ابدا حتى لو امتلكة القدرة والاستطاعة على استخدام العنف المفرط الاعتباطي وغير المبرر وإلا فإنها ستنفي ذاتها كسلطة سياسية وتفقد مشروعيتها العقلانية العامة , لهذا فالعنف ترياق مسموم بالنسبة للسياسة - حسب افلاطون- «فارموكان» فيه الداء والدواء، اذ ان كل عنف باعتباره ملجأ للضعيف وليس للقوي يكشف عن ضعف (عن مرض ما) عن خلل خطير في الجسم السياسي. كما ان اللجوء غير الملائم الى العنف يدخل السلطة مرة اخرى في وضعية (حرب الجميع ضد الجميع السابقة على اقامة السلطة السياسية) حسب هوبز تلك الحالة التي تتساوى فيها كل الكيانات بالقوة والاهلية وتضيع فيها الشرعية والحق الشرعي وهكذا يحول العنف جهاز السلطة المبني على اساس الحق الى جهاز للعنف والقوة والقمع والقهر , جهازا يدخل في حرب مع اجهزة اخرى للعنف ويلغي وضع تعاليه السياسي بوصفه سلطة على كل ما يقف في وجهها ومن ثم تقويض مشروعية قوتها وشرعية وجودها.. ان العنف الذي تلجأ اليه السلطة يظل دوماً محفوفاً بالمخاطر مثلما هو الشأن بالنسبة للعنف الذي يهاجمها. وترى كل من الامريكية حنة ارندت وكلود لوفور بأن العنف يفضي الى اختفاء السياسة في الانظمة الشمولية , واحلال العنف قوة تسلطية وحيدة محل السلطة السياسية يسيران بنفس الوتيرة ويتلازمان بحيث ان حضور احدهما يعني غياب الآخر لأن حلول العنف محل السلطة جعل هذه الاخيرة ضائعة المعالم وغير متعرف عليها وعلى شرعيتها السياسية , وبذلك كان الطغيان والاستبداد الذان يستندان على قوة العنف والقهر والاجبار هو تسلطية وليس سلطة حقيقية اذ لا تكون المبادئ (المداخل والمخارج) مستبطنة من طرف اولئك الذين يخضعون له اي المحكومين به فضلاً عن ذلك فهو لا يتوفر على دعامة ايديولوجية سوى ارادة المستبد الحسنة او السيئة ومثلما اكد افلاطون بأن المستبد بوصفه سجين عالم باطني لا يستطيع السيطرة عليه يعيش مفتوناً باضطراب رغباته واهوائه الخاصة به، اذ ان الاستبداد شكل سياسي يوجه فيه العنف الباطني للمستبد السلطة ويحيلها الى تسلط , وهكذا نتعرف في هذا التحليل على أحد اوجه الـ«بدون- اساس» الذي اشار اليه هيدجر في كتابه (مبدأ العلة) فالقوى الاستبدادية لا تعرف لماذا ولا بواسطة ماذا هي جائرة انها هي نفسها تسقط اولاً ضحية هذا الجور قبل ان تصير استبدادية، انها لا تعلم بتاتاً بأن العنف «بدون لماذا» «بدون علة» «بدون- اساس» يستحيل تبريره بل ينكشف بعده باطل وجور لايجب السكوت عليه . ان السلطة التي تتخذ من العنف الخيار الوحيد في حل مشكلاتها وأزماتها تعمل على تقويض ذاتها وتهديد حياة مجتمعها، اذ يستحيل تبرير مشروعية العنف في كل الحالات، فاذا لم يكن العنف استثناء تستدعيه ضرورة قاهرة وفي لحظة مباغتة للحفاظ على حياة الناس ومصالحهم وتأمين سعادتهم ومستقبلهم ضد اي تهديد خارجي مؤكد، فإن السياسة والتسلطة السياسية تضع نفسها على شفير الهاوية و«حينما يكون الحصان على شفأ الهاوية، فلا يجدي شد اللجام لا يقافه».. أليس هذا هو الحال الذي بلغته تسلطية قوى الهيمنة التقليدية اليمنية التي حولت مشروع (فخ الوحدة )الدبلوماسي الماكر الى جريمة حرب وتكفير شاملة ومن ثم تدمير ونهب واحتلال غاشم للجنوب دولة وشعب وارض ووطن وسيادة وتاريخ وهوية ...الخ . اذ بفعلتها الشنيعة هذه احلت العنف المفرط محل قوة الحق المشروعة بل انها استمرأت العنف وعملت جاهدة على خلق شروطه واسبابه حتى حينما لا تكون هذه الاسباب والشروط قائمة في الواقع، فبدلاً من ان يتم تنمية مشروع الاتحاد السياسي السلمي بين الشمال والجنوب وتحويله الى افق سياسي وسلطة مؤسسيه قانونية تصون الحياة الكريمة لجميع المواطنين بعدالة وانصاف ومساواة وتكافؤ الفرص في الحياة والعمل والانتاج والتملك وتوزيع السلطة والثروة والمشاركة في اتخاذ القرار والسيادة وتأمين جميع شروط العيش المشترك لجميع المواطنين الجنوبيين والشماليين على حد سواء، بدلاً من استثمار مشروع «الوحدة السلمي» للنمو والتقدم والازدهار فضلت تلك القوى الشريرة المستبدة حل المشكلات الناجمة بالحرب والعنف والاحتلال , اذ راحت التسلطية الحربية التكفيرية الاحتلالية طوال منذ الاجتياح الغاشم في 94 وحتى الان تعمل على تقويض كل مقومات الاندماج الاجتماعي وتعميق الفرقة والشقاق بين الجنوب والشمال ولم تحاول طول السنين الماضية استئناف الفعل السياسي وقوة الحق القانوني، بل ظل العنف والتهديد والقمع والوعيد هو البديل، وها هي الحرب اليوم تطل برأسها من جديد بعد مومفبيك الحوار ومسرحية الاعتذار المهين لشعب الجنوب الثائر هاهي تلك القوى ذاتها قوى الحرب والتكفير والاحتلال تستئنف لعبتها الاثيرة لاسيما بعد ان خلعت بزتها القديمة وارتدت حلة ثورية وحصانة قضائية خليجية يمنية هاهي تلك القوى العنيفة تتأهب لاعلان الحرب الجديدة ضد شعب الجنوب الذي سئم القمع والوعود وكسر كل حواجز الخوف واعلن ثورته الوطنية التحررية من الاستعمار الداخلي واستعادة السيادة الوطنية الجنوبية الكاملة على ارضه وحدودة المعروفة . وبصورة مختلفة لما فعلته في الجنوب المسلوب فعلت تلك القوى التسلطية العنيفة هناك بالشمال ودعمت جماعة الشباب المؤمن لتأسيس كيان مضاد للاصلاح والاخوان في صعدة وقدمت لعضو مجلس النواب حينها حسين الحوثي كل الدعم والاسناد لتأسيس جماعته الحوثية الطائفية في صعدة وبعد ثلاث سنوان فقط من تأسس جماعة الشباب المؤمن اعلنت صنعاء الحرب على الحوثيين بهدف تفكيك الجماعة ومقاومة خطرها،خاضت سبع حروب هناك حصدت آلاف الضحايا من ومليارات الدولارات والخراب والدمار والآثار ولازالت تستعر للمزيدانتهت بانتصار الجماعة الحوثية قوة موازية ومنظمة في الشمال ان لم تكن هي اليوم اقوى كيان سياسي يتأهب لاستلام السلطة في صنعاء الهشة وهكذا يمكن القول: إن سلطة او تسلطية العنف والحرب والاحتلال والقمع والاستبداد, اي القوة الفجة في بلاد (اليمن السعيد بجهله) كما قال الدكتور ابوبكر السقاف اخذت تحل محل السياسة بوصفها تدبير امر الشأن العام ومحل السلطة بعدها حكم الناس برضاهم ومحل قوة الحق والرشد والحكمة والشرعية في حل المشكلات والازمات التي تواجه البلاد والعباد في الجنوب والشمال ليحل الخراب وتضيع السيادة ويصير الأمر كله مرهون في ايادي خارجية , اقليمية ودولية , وهذا هو الامر المتوقع من تغليب العنف على السياسة. والعنف حينما يزيد عن حده ويتسع مداه وتترسخ تجاربه وتتعمق آثاره في البنية الاجتماعية والحياتية للناس،. لا ريب وانه على المدى الطويل سوف يخلق دينامياته الخاصة، وانماط علاقاته وقيمه واساليب ديمومته بحيث يستحيل على المجتمع وقواه السيطرة عليه وعلى نتائجه، ليس هناك ثمة امل في الافق الظليم لتجاوز هذا الوضع الذي صنعته سنوات طوال من ممارسة العنف العاري سوى مزيد من العنف والخراب والدمار وها هي رقعة العنف تتسع يوماً بعد يوم في الجنوب والشمال وها هي السياسية تختفي من حياتنا كما تختفي معالم الطريق في عاصفة من الرمال وكلما غابت السلطة السياسية، وحضر العنف، كلما عجل بزوال السياسة وسلطتها وشرعيتها وتفكك النظام وكل يوم تتدهور فرص الحياة الأمنة في بلد تغلبت فيه الجريمة والقوة والسيف والساعد على العقل والعقد والحق والسياسة وتجاوزت كل احتمال الاحتمال.. فهل يمكننا القول: إنه كلما توغلنا في الظلام اقتربنا من الفجر؟! والسلام ختام