ذكرى ثلاثين عاماً على الوحدة الألمانية
«توحيد الاشتراكية والرأسمالية هو أمر مستحيل كجمع الماء والنار». بهذا التشبيه الذي استخدمه إيريش هونيكر رئيس ألمانيا الديمقراطية (ألمانيا الشرقية) في 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1984، أراد القول إن أي اندماج بين ألمانيا الغربية والشرقية غير وارد، إن لم يكن مستحيلاً، بنفس استحالة جمع الماء بالنار، وإذا بالأحداث اللاحقة توجه صفعة لهونيكر، وتكذّب مقولته تلك بعد مرور ستة أعوام من ذلك التصريح؛ بأن يتحقق ذلك، تحديداً بفارق ثلاثة أيام فقط، بإعلان وحدة ألمانيا الاتحادية وألمانيا الديمقراطية، في 3 أكتوبر 1990، بعد طول انتظار دام 45 عاماً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وشهد عام 1990 حدثين مهمين آخرين ذوَيْ أبعاد تاريخية متفاوتة، في تاريخ العلاقات الدولية لتلك السنة، تمثل أحدهما في إعلان قيام دولة الوحدة اليمنية في 22 مايو (أيار) 1990، بين الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (المسماة بالجمهورية اليمنية)، تلاه بوقت قصير غزو الكويت من قبل العراق في عهد صدام حسين في 2 أغسطس (آب) 1990، وتوحيد ألمانيا التي سبق ذكرها في 3 أكتوبر 1990. والجدير بالإشارة إليه هنا أن ما حدث في ألمانيا هو توحيد وليس إعادة توحيد، وسبب أهمية التمييز بين المصطلحين أن كلمة «توحيد ألمانيا» تعني هنا توحيد أراضي دولتَي ألمانيا، بينما لو استخدم الألمان كلمة «إعادة توحيد ألمانيا» فستعني إعادة ألمانيا إلى حدودها في عام 1937، وكان هذا سيعني تجاهل الأراضي التي فُرضت واقتُطعت من ألمانيا في عام 1945، في مؤتمري «يالتا» و«بوتسدام»، لصالح بولندا والاتحاد السوفياتي. وبانتهاء تقسيم ألمانيا إلى دولتين أصبح هناك تطابق بين الدولة والأمة الألمانية في حين كانت كلتا الدولتين في عام 1949 تعتبر نفسها الممثلة الوحيدة للأمة الألمانية؛ سواء من جانب ألمانيا الاتحادية، أو من ناحية ألمانيا الديمقراطية؛ فألمانيا الاتحادية لم تكن تعتبر نفسها وريثة ألمانيا فحسب، وإنما هي وحدها تمثل وتجسّد الدولة الألمانية، مما دفعني على المستوى الشخصي إلى اختياره موضوعاً للدراسة، في البحث اللازم تقديمه للحصول على دبلوم معهد العلوم السياسية في مدينة «آكس إن بروفانس» في جنوب مارسيليا، وعنونته «مبدأ هالشتاين وتطبيقه على العلاقات العربية - الألمانية»، قدَّمتُه في عام 1973، ويقوم على اعتبار ألمانيا الاتحادية الممثلة الوحيدة للشعب الألماني، وأن أي علاقات تقوم بها الدول الأجنبية مع ألمانيا الديمقراطية ستؤدي بألمانيا الاتحادية إلى قطع علاقاتها بالدولة التي تعترف بألمانيا الشرقية، وهذا ما حدث بين ألمانيا الاتحادية وجمهورية مصر العربية، إثر قيام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في الستينات بالرد على صفقة السلاح بين ألمانيا وإسرائيل، ضمن سياسة التعويضات الألمانية لها عن الفترة النازية، بتوجيهه دعوة لزعيم ألمانيا الشرقية حينها والتر البريخت إلى زيارة مصر، وما أدى إليه ذلك من تداعيات واسعة في العلاقات العربية - الألمانية في عام 1965. وتخلت ألمانيا عن تلك السياسة بقدوم فيلي برانت إلى الحكم في ألمانيا الغربية، وانفتاحها نحو ألمانيا الشرقية، بما سُمّي سياسة «الاوس بوليتيك»، التي تُرجمت لاحقاً في عام 1973 بقبول عضوية الدولتين الألمانيتين في الأمم المتحدة وفي الهيئات التابعة للمنظمة الدولية. وأحست ألمانيا الشرقية بأنها الآن فصاعداً أصبحت في وضع آمن، ولن تتحقق الوحدة لألمانيا في المستقبل على حسابها. تحقيق الوحدة الألمانية هو حلم راود الألمان في الدولتين السابقتين الغربية والشرقية، ولإنجاح هذا الحلم، كان على القيادة الألمانية ممثلة بالمستشار الألماني هلموت كول، في تلك الفترة، تبديد مخاوف كل من الاتحاد السوفياتي وبولندا في المعسكر الاشتراكي والدول الغربية، خاصة على مستوى الدولة الفرنسية التي لها علاقات تاريخية بألمانيا خيم عليها ميراث تداعيات أحداث الحربين العالميتين الأولى والثانية؛ مخاوف على المستويين الرسمي والشعبي، واستطاع كل من الجنرال ديغول والمستشار الألماني أديناور فتح صفحة جديدة بين البلدين. موقع ألمانيا الجغرافي بين الشرق والغرب الأوروبي جعلها تثير مخاوف أمن جيرانها في الشرق والغرب معاً؛ فعلى مستوى حدودها مع بولندا والاتحاد السوفياتي، تدعو الحاجة إلى التذكير بأن التمدد الهتلري بدأ في عام 1939، بغزو بولندا وإنهائها كدولة مستقلة، وتبعها بعد ذلك بأقل من عامين غزو الاتحاد السوفياتي في يونيو 1941، وما نتج عن ذلك من دمار وملايين القتلى، ولهذا لتبديد مخاوف بولندا والاتحاد السوفياتي من عودة ألمانيا موحدة كان عليها دفع فاتورة وحدتها بتقديم تنازلات لبولندا، بالاعتراف في معاهدة التسوية النهائية بجميع المطالبات المتعلقة بالأراضي الواقعة شرق خط أودر - نيس، واعتبارها الحدود من جانب ألمانيا الموحدة، في معاهدة الحدود الألمانية - البولندية في نوفمبر 1990. ومن جانب آخر، وُقّعت اتفاقية بين الاتحاد السوفياتي وألمانيا في نوفمبر (تشرين الثاني) 1990 تؤكد عدم المساس بالحدود بين بلديهما، واعتبارها حدوداً دائمة غير قابلة للتعديل أو التغيير لا في الوقت الحاضر ولا في المستقبل، وكان للعلاقات الشخصية التي ربطت المستشار الألماني هلموت كول وغورباتشوف دور كبير في تحقيق الوحدة الألمانية، حسب تصريحات كول لبعض الصحافيين الألمان، حيث قال إنه يحتفظ بالجميل لغورباتشوف مع سقوط جدار برلين، وزحف مواطني ألمانيا الشرقية إلى حدود ألمانيا الغربية، حيث إن غورباتشوف لم يحاول (وكان بإمكانه عمل ذلك) إنقاذ نظام ألمانيا الشرقية من الانهيار باستخدام القوات السوفياتية المرابطة هناك. وفيما يخص عسكرة ألمانيا حتى لا تعود مصدر تهديد لجيرانها في الغرب والشرق عبر تأطيرها دفاعياً من خلال وجودها في إطار أحلاف عسكرية جماعية، رأى الاتحاد السوفياتي في البداية إعادة إحياء اقتراح ستالين لعام 1952؛ بأنهم لن يعترضوا على توحُّد ألمانيا شريطة أن تكون دولة محايدة. وبرفض كول هذا الاقتراح، تم تقديم فكرة أخرى: لماذا لا تكون ألمانيا الموحدة في آن واحد في الحلف الأطلسي وفي حلف وارسو للدول الاشتراكية؟! وهذا بدوره لم يوافق عليه هلموت كول الذي أصرَّ على أن تكون ألمانيا كبقية الأمم حرة في اختيار مع مَن تتحالف، ولهذا كان خيار ألمانيا الفيدرالية التي كانت عضواً في حلف «الناتو» تمسكها بعضويته، على أن تشمل الضمانات والحماية أراضي ألمانيا الشرقية سابقاً. والغريب في هذا الصدد أن ممثلي الحزب الشيوعي الفرنسي احتجوا في الجمعية الوطنية الفرنسية على هذا القرار، في الوقت الذي لم يعترض عليه الاتحاد السوفياتي نفسه. والمثير ملاحظته هنا ردود فعل القيادات الأوروبية إزاء توجه ألمانيا إلى التوحد مجدداً، ومخاوفها من هذه التطورات؛ سواء على مستوى الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران أو على مستوى رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت ثاتشر، واختلاف تفسير تصريحاتهما ومواقفهما نحو ألمانيا الموحدة من قبل الصحافيين أو الرسميين في كلتا الدولتين. فهناك تباين في قراءة تصريحات ومواقف الرئيس الفرنسي بين النخب، وميتران نفسه، حول المسار التاريخي الذي أدى إلى وحدة ألمانيا. الأطراف التي أرادت إظهار مخاوف ميتران من الوحدة الألمانية استشهدوا بأرشيف السوفيات للحديث الذي قيل إنه جرى بين مستشار الرئيس الفرنسي جاك أتالي، وأحد مستشاري الرئيس السوفياتي غورباتشوف (فاديم زجلادين)، وذلك أثناء زيارة ميتران للقاء غورباتشوف، كييف، نهاية 1989، قال أتالي إن الجانب الفرنسي مندهش من موقف الاتحاد السوفياتي بعد التدخل لإنقاذ النظام الموالي له في ألمانيا الشرقية، ففرنسا لا تريد بأي حال من الأحول أن تتوحد ألمانيا، رغم قناعتها أن ذلك لا ما حالة له. وللحديث بقية. مقالة الدكتور محمد علي السقاف صحيفة الشرق الاوسط ، بتاريخ ١٣ اكتوبر ٢٠٢٠