الشرعية
رحم الله المفكر والمترجم المحترف الفقيد الأستاذ حامد جامع، فقد كنت ذات يوم وإياه في شارع المعلا الرئيسي في انتظار الباص حينما مر طقم عسكري بالاتجاه المعاكس لحركة السير. كان ذلك في منتصف العام 1995م وكنت قد عدت للتو من بلغاريا وربما كانت تلك أولى زياراتي لعدن بعد سقوطها بيد (شرعية) ٧/٧. استغربت لظاهرة عكس الخط، وتساءلت مندهشا: ما هذا يا أستاذ حامد؟ كيف يسمح هذا السائق لنفسه السير بالاتجاه المعاكس؟ رد علي الفقيد الاستاذ حامد بابتسامته الودودة الساخرة: ـ لا ، لا، ما فيش حاجة، لا تقلق، هذا سيكون واحد شرعي!!! الإجابة لخصت لي عشرات المعاني والدلالات التي لم أدرِ أأضحك لها أم أحزن!!! مشكلة اللغة السياسية في البلدان المتخلفة ومنها بلادنا البائسة، أنها تستخدم المفردات لعكس معانيها فتجعل اللص وطنياً، والمناضل متمرداً، والشريف النزيه غبيا، والنصاب "احمر عين"، واللاشرعي شرعياً والرافض للظلم والعبث خائنا وعميلا والرئيس هو الوطن والشعب هو الحكزمو ز . . . إلخ. * * * لا يختلف اثنان حول شرعية الرئيس عبدربه منصور هادي كرئيس شرعيٍ منتخب في محافظات الشمال عندما لم يشارك الجنوبيون في انتخابه لاسباب ليس هذا مجال نقاشها، لكن السؤال هو : هل نجح الرئيس هادي في جعل شرعيته "شرعية" بالمعنى الاصطلاحي أو حتى اللغوي للكلمة؟؟ ذلك هو ما ذكرني بموقف عاكس الخط والمرحوم الأستاذ حامد جامع. للأسف الشديد لقد فشل الرئيس هادي في صناعة شرعية يمكن ان تحظى بالاحترام والصيرورة وبالعكس، فقد نجح في استقطاب مجموعة من الفاسدين والفاشلين وذوي السمعة السيئة والتاريخ الملتبس، وراهن على عنتريات البعض وشطحات البعض، وبعض الذين يضعون له "النصع حيث تحط رصاصته" كما يقول اهلنا في الجنوب، واعتقد أنه من خلال هؤلاء سيثبت شرعيته ، وسيصل بهم إلى ما تتضمنه أجندته السياسية المعلنة. لم يراهن الرئيس هادي على أصحاب الكفاءة والنزاهة والأيدي النظيفة والانتماء الوطني، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية والجهوية، بل ركز على أولائك الذين أوصلوا سلفه إلى مواجهة الشعب، وأضاف لهم عدداً جديداً من الفاسدين، فأصبح معسكر الرئيس هادي مكتضاً بهذا النوع من "الشرعيين" سيئي السمعة عديمي الكفاءة كثيري الثرثرة قليلي الفعل، كثيري الأخذ منعدمي العطاء وصار هؤلاء هم الشرعيون. منذ توليه رئاسة الجمهورية، اعتمد الرئيس هادي على نفس المنظومة ونفس القيادات ونفس الأفراد، ونفس السياسات التي اتبعها سلفه، والتي كانت سببا في الثورة عليه وإجباره على التنحي، وكل التغييرات التي أجراها الرئيس هادي أنه نقل فاسداً من مكان إلى مكانٍ آخر، واستبدله بفاسد آخر كان قد أمعن في فساده في موقعه السابق، وأضاف إليهم مجموعة من المتسلقين وعديمي الكفاءة وأصحاب العنتريات، وحينما تورط ببعض الشرفاء سرعان ما أسرع في التخلص منهم لأنهم يسببون له ولأصحابه صداعا طويلا بتمسكهم بالمعايير ورفضهم لمظاهر العبث بعد أن صار العابثون هم الشرعيون. وللحديث بقية الشرعية 2 غضب البعض من متابعي منشوري بالأمس عن الشرعية وقصة عاكس الخط في شارع الشهيد مدرم، وهو الشارع الأشهر بوجود فاصل بين خطي الذهاب والإياب، واعتبر البعض أن حديثي عن فشل الرئيس هادي في جعل شرعيته، "شرعية" بالمعنيين الاصطلاحي واللغوي سخريةً من الرئيس وشرعيته، وأنا والله لم أقصد هذا لكنني أتحدث عن عيوب يقر بها حتى هؤلاء الغاضبون، والرئيس هادي نفسه. ما لا يرغب الإخوة المتظاهرون بتأييدهم لشرعية الرئيس هادي الإقرار به هو أن من نصر الرئيس ووقف في صفه وحقق له منجزات حقيقية على الأرض في مواجهة الانقلاب والانقلابيين ، هم الجنوبيون الذين تناصبهم "الشرعية" العداء، في حين عجز الذين يدّعون أنهم "أنصار الشرعية " عن التقدم عشرة أمتار بعد فرضة نهم، ووقفوا على بعد 30 كيلو متراً من صنعاء، على مدى خمس سنوات، ونسي اليمنيون متى أطلقت آخر رصاصة باتجاه الحوثيين في هذه الجبهة، فهل لم يدرك الرئيس هادي هذه الجزئية أم أنه ممنوعٌ من إدراكها؟ ومع إنني لا أحب التعرض للأسماء، لكنني أشير هنا إلى تعليق أحد أصدقاء صفحتي على فيس بوك، حيث كتب تعليقاً على منشور سابق قائلاً: "أصبح من المستحيل على الرئيس هادي أن يهزم المشروع الحوثي، طالما من يقود قواته العسكرية هو علي محسن والمقدشي". ملخص الفكرة أن الشرعية، ليست شرعية التعيينات والألقاب الوظيفية والمسميات الوزارية والإدارية، وإن الشرعية لا يمكن أن تستقيم طالما سيطر عليها أفراد وجماعات هم أسوأ سمعة، وأشد فساداً وأكثر قبحاً وأشد طغياناً من الحوثيين ومن علي عبد الله صالح نفسه، وملخص الملخص، أنك لا يمكن أن تواجه الفساد بفاسدين أكثر احترافا، ولا مقارعة الظلم بمن هو أكثر ظلماً منهم، ولا مواجهة الطغيان بمن هو أكثر طغيانا ولا إقامة شرعية بمن يفتقدون أبسط شروط الشرعية والمشروعية.