سبتمبر.. الثورة والانقلاب
بعد 57 عاماً على قيامها تظل ثورة 26 سبتمبر اليمنية مثاراً للجدل والنقاش، ويطرح السؤال الأساسي: لماذا أخفقت ثورة سبتمبر في تحقيق أهم وأكثر شعاراتها وأهدافها وضوحاً من بين تلك الشعارات التي رفعها روادها الأوائل؟ ولماذا انتكست أخيرا وعاد أعداؤها إلى الصدارة بعد أكثر من نصف قرن على قيامها؟ ويصر البعض على التساؤل : هل كان ما شهدته اليمن في سبتمبر 1992م انقلاباً أم ثورة؟ من غير شك أن ثورة 26 سبتمبر قد جاءت على هيئة انقلابٍ عسكريٍ أطاح بواحدٍ من أسوأ الأنظمة الثيوقراطية التي تبقت من مخلفات القرون الوسطى، وجاءت الثورة، مثل كثير من الثورات العربية التي جاءت على هيئة انقلابات عسكرية كما في العراق وسوريا والسودان وليبيا ومصر نفسها، تتويجاً لإرهاصات وتمردات ومحاولات وتضحيات عدة كشفت عن أحلام نبيلة تغلغلت ونمت بين جوانح الآلاف من المثقفين والمفكرين والقادة السياسيين والعسكريين اليمنيين، أحلامٍ مثلت رغبة هؤلاء ومعهم السواد الأعظم من اليمنيين في مغادرة أزمنة القرون الوسطى والانتقال بالشعب اليمني إلى القرن العشرين وإقامة نظام وطني يرتكز على مبادئ العدالة والمواطنة والحرية والكرامة الإنسانية والتنمية. لا يحتاج الأمر إلى الخوض المتشعب في شعارات الثورة وصراعاتها مع قوى القرون الوسطى لكن لا بد من الإقرار أن القوى الرافضة للثورة لم تقف مكتوفة الأيدي، بل لقد حشدت كل طاقاتها وكانت أكثر مهارةً في رص صفوفها واختراق صف الثورة وتقمص رداء الثورة نفسها، ولم يكن انقلاب 5 نوفمبر 1967م سوى تلخيصٍ مكثفٍ لفشل قوى الثورة الحقيقية في تقديم برنامج عمل وطني نهضوي قابل للتحقيق وبناء تحالف وطني عريض ومتين يمكنه إنجاز المهمات والتطلعات الوطنية التي جاءت الثورة لتحقيقها، ومن هنا فقد جاء الانعطاف بالثورة بإتجاه العودة إلى الوضع الثيوقراطي الذي لم تكن ملامحة وبقايا جذوره قد غادرت بعد، ولو بدون الإمام والإمامة، مع استمرار التغني بالثورة والتشدق بشعاراتها والاحتفاء بأعيادها. للأسف الشديد أن سوء حظ الشعب اليمني قد جعل ثورته المجيدة تقع في أيدي قوى لا علاقة لها لا بالثورة، ولا بتطلعات الشعب اليمني، ومن بين رموزها من هو أكثر ثيوقراطية وأكثر رجعية من ثيوقراطيي ورجعيي الإمامة نفسها، وحتى عندما توقع الكثير من المتابعين للشأن اليمني في الداخل والخارج أن اليمن قد دخلت مرحلة جديدة باتجاه النهوض في مطلع تسعينات القرن الماضي، اتضح بعد سنوات قليلة فقط أن الممسكين بخيوط تلك المرحلة لهم ارتباطهم بمن طوحت بهم ثورة سبتمبر أكثر من ارتباطهم بالثورة وأهدافها وما انقلاب 21 سبتمبر سوى تلخيص لكل تلك المفارقات السريالية في حياة اليمنيين. ثورة سبتمبر كانت مرحلةً مشرقة في التاريخ اليمني لم يدم إشراقها طويلاً، وليس ذنبها ولا ذنب ثوارها الأبطال أنه قد تم السطو عليها مثل الكثير من الأشياء الجميلة التي تعرضت للسطو في هذا البلد، على أيدي لصوص التاريخ ومزوري الحقائق وأعداء الثورة نفسها، ممن احتكروا الوطن والوطنية لأنفسهم وراحوا يتصدقون ببعض فتاتهما على من ينخرطون معهم في مشاريعهم الخاصة، وكلما احتفلوا بذكراها كلما أمعنوا في خنقها ودفن بقاياها وسط ركام مفاسدهم وعدائيتهم للتاريخ والحق والفضيلة.