القضية الجنوبية وإشكالية الهوية (16)
إن تشكيل المجلس الانتقالي قد جاء بعد عدة نداءات بعضها اتَجه به ناشطون سياسيون وإعلاميون دعوا إلى ضرورة وأهمية قيام كيان سياسي جنوبي يتبنى القضية الجنوبية ويعبر عن رأ ي الجنوبيين حول مستقبل بلدهم ويقود نضالاتهم من أجل تحقيق أهداف الشعب الجنوبي. وكان أكثرها انتشارا دعوة محافظ عدن اللواء عيدروس الزبيدي التي تقدم بها في 10/ سبتمبر/ 2016م حينما كان ما يزال محافظا لعدن، إلى المكونات السياسية الجنوبية التي تمتد إلى ما قبل الاجتياح الانقلابي، وقوى المقاومة الجنوبية داعيا إلى " سرعة تشكيل كيان سياسي جنوبي يكون ندا للتيارات السياسية في الشمال" وقال في دعوته إن "الفرصة سانحة ليعبر الجنوبيون عن خياراتهم السياسية وتطلعاتهم وأن يكونوا طرفا في المعادلة السياسية في البلاد بعد ما حققته المقاومة من انتصارات". ودعا اللواء الزبيدي الرئيس عبد ربه منصور هادي ودول التحالف إلى دعم "توجهات الجنوبيين في إعلان كيانهم السياسي في المحافظات المحررة " بما "يعبر عن تطلعاتهم ويمثلهم في الحكومة وفي أي مفاوضات سياسية مستقلة". وقد لاقت تلك الدعوة تفاعلاً إيجابياً من قبل قطاعات واسعة من المثقفين والأكاديميين والناشطين السياسيين والحقوقيين الجنوبيين ورجال المقاومة الجنوبية وعدد من نشطاء الحراك السلمي السابقين، وكذا من محافظي محافظات الجنوب، وأنصار الثوؤة الجنوبية في الخارج. وبالمقابل مثلت تلك الدعوة بداية لتدشين حملة الهجوم الإعلامي والتشهير والقدح والسباب ضد اللواء الزبيدي والمطالبة بإعفائه من منصبة كمحافظ للمحافظة من قبل قوى النفوذ والهيمنة داخل الشرعية، واستمرار الضغط على الرئيس هادي للتخلص من اللواء الزبيدي والمجيء بمحافظ آخر يتناغم مع سلوك واتجاهات قوى النفوذ الراغبة في استعادة الهيمنة على الجنوب مواصلة لنهج 7/7/1994م، وهو ما تحقق لهؤلاء من خلال إصدار الرئيس هادي قرارا يقضي بإقالة اللواء عيدروس الزبيدي من منصبه وتعيينه مستشاراً لرئيس الجمهورية، وقد قوبل هذا القرار برفض واسع من قبل معظم قطاعات الشعب الجنوبي، حيث مثل اللواء الزبيدي رمزا قويا في حركة النضال الجنوبي السلمي والمسلح واعتبر الكثير من الجنوبيين قرار إعفائه طعنة في ظهر المقاومة الجنوبية وانتصارا لجماعة الغزو التي ما انفكت تنظر إلى الجنوب على إنه غنيمتها التي ظفرت بها بعد غزو 1994م، ووطنا بديلا ولو مؤقتا بعد أن أخفقت في تحقيق أي انتصار يذكر على الحوثيين الذين يهيمنون على أكثر من تسعين بالمائة من أراضي الشمال . وهكذا وبعد فعالية الاحتجاج السلمية التي دعا لها قادة مقاومون وناشطون سياسيون جنوبيون رفضا لإقالة المحافظ الزبيدي من منصبه والتي جرت في 4 مايو 2017م ، واعتبرت واحدة من أهم وأوسع الفعاليات بعد الحرب، جرى تكليف اللواء الزبيدي بتشكيل هيئة قيادية للكيان السياسي الجنوبي وهو ما جرى بعد أسبوع فقط، في الفعالية التالية التي جرت يوم 11 مايو بإشهار هيئة رئاسة المجلس الانتقالي الجنوبي المكونة من محافظي المحافظات الثمان وعدد آخر من ممثلي القطاعات الشعبية الجنوبية، وهو الحدث الذي حظي بدعم ومساندة شعبيين واسعين في عموم محافظات الجنوب. وهنا لا بد من التوقف عند بعض الملاحظات المهمة المتصلة بإعلان المجلس الانتقالي الجنوبي وما رافق الإعلان وما تلاه من تحولات وأحداث مهمة: • لقد قوبل الإعلان عن تشكيل المجلس الانتقالي الجنوبي بارتياح شعبي واسع في كل محافظات الجنوب مع بعض التفاوت من محافظة إلى أخرى تبعاً لتنازع النفوذ الذي كانت تحظى به بعض الأطراف المتحيزة إلى الغزاة النظام الشمالي للجنوب منذ 1994م حتى 2015م، وجاء التعبير عن هذا الارتياح من خلال برقيات التهاني ومقالات الإشادة وفعاليات التضامن التي شهدتها عواصم كل المحافظات والمديريات الجنوبية. • وبالمقابل فقد قوبل الحدث بهجمة إعلامية مضادة يبدو أنها كانت مكبوتة لأسباب مفهومة لدى المصرين على إبقاء الجنوب تحت سطوة النافذين الشماليين داخل الشرعية، وجاء إعلان المجلس ليفجرها ويضيف إليها كل ما استحدثه المهرجون والمروجون وبائعي التصريحات والحملات الإعلامية ممن يدعون احتكار الشرعية والوطنية والنضال، أما الحوثيون وأنصارهم فلا يتذكرون الجنوب ومقاومته لهم إلا ويستحضرون الهزائم التي ألحقت بهم فيزدادون هيجانا وسُعاراً إزاء كل ما له صلة بنصرة شعب الجنوب وقضيته ومن المفارقات العجيبة لمن لا يعلم خفايا السياسة في اليمن، أن موقف الحوثيين من إعلان المجلس يأتي متطابقا مع موقف من يدعون أنهم يحاربونهم داخل الشرعية، وهو ما يثير من علامات التعجب أكثر مما يكشف عن خفايا العلاقة بين هذين الطرفين. • إن مقولة إن اللواء عيدروس الزبيدي قد شكل المجلس الانتقالي انتقاما لإزاحته من موقعه كمحافظ لمحافظة عدن هي مقولة خرقاء ولا تصمد للمحاججة، لأن عيدروس الزبيدي كان قد دعا لتشكيل كيان سياسي جنوبي وهو في موقعه محافظ لمحافظة عدن، بينما شكل إعفائه من منصبة فرصة له للتحلل من الالتزام الروتيني نحو السلطات الرسمية، هذا الالتزام الذي ظل يقيد من حقه في الحركة والاختيار الحر بعيدا عن التزامات الوظيفة وتروتوكولاتها القاتلة، فتشكيل المجلس الانتقالي لم يكن ثأرا من أحد ولا انتقاما لحق أحد، بل كان استجابة لحاجة موضوعية لوجود جسمٍ سياسيٍ جنوبي يعبر عن تطلعات الشعب الجنوبي ويحمل قضيته العادلة أمام المجتمعات المحلية والإقليمية والدولية، ومما يؤكد هذا أن هيئة رئاسة المجلس قد شملت في عضويتها محافظين ووزراء كانوا ما يزالون في وظائفهم وقد قبل هؤلاء بهذه العضوية قبل إعفائهم لاحقا من قبل الرئيس هادي وسلطته. • ونفس الأمر يمكن الانطلاق منه للرد على من يقولون أن المجلس الانتقالي صناعة إماراتية، وإن الإمارات هي من أعلنته وهي من تستطيع أن توقفه، فهذا القول فيه من الاستغباء والعبط السياسي ما يجعل أقل الناس دراية لتعقيدات السياسة يرفض الاقتناع به. فأولا: إن المجلس جاء تلبية لحاجة ضرورية وملحة اقتضاها تطور القضية الجنوبية وما شهدتها من تحولات على الأرض خلال الثورة السلمية وبعد الانتصارات الميدانية العسكرية على الغزاة الانقلابيين وكل هذا تمتد بداياته إلى العام 1994م قبل التدخل العربي وقبل دخول الإمارات لنصرة السلطة الشرعية في التصدي للتحالف الانقلابي في العام 2015م. وثانيا: لقد ظلت حجة كل الذين يرفضون الاعتراف بالقضية الجنوبية، هي إن الجنوبيين ليس لديهم كيان سياسي يعبر عنهم ويتبنى قضيتهم، وعند ما جاء هذا الكيان الذي ظلوا يلحون على الجنوبيين بتكوينه كنوع من التعجير والابتزاز، جُنَّ جنون هؤلاء وراحو يبحثون عن مؤامرة وهمية يدعون أنها هي أنتجته. وثالثا: إن المجلس الانتقالي يمثل رديفا سياسياً للقضية الجنوبية، وهذه القضية عمرها ربع قرن قبل ولادة المجلس ، وليست وليدة يوم إعلان المجلس ولا يوم إعلان عاصفة الحزم، ويعلم الجميع أن قدوم القوات الإماراتية لم يكن إلا في إطار عاصفة الحزم التي بدورها أتت بدعوة الرئيس الشرعي عبدربه منصور هادي، وبالتالي تصبح حكاية أن المجلس صنيعة هذه الدولة أو تلك حكاية خرقاء لا مضمون لها ولا برهان عليها ولا سند. وهذا القول كما يؤكد الكثيرون من قادة المقاومة الجنوبية والمجلس الانتقالي الجنوبي ، لا يعني التنكر للدور النبيل الذي لعبته دولة الإمارات العربية المتحدة ومعها المملكة العربية السعودية في دعم وتأهيل القوات الجنوبية وتمكينها من القيام بمهماتها أثناء التحرير وفي التصدي للجماعات الإرهابية واستئصال خلاياها وتجمعاتها في كل من عدن وأبين وشبوة وحضرموت، ثم في حفظ الأمن والاستقرار في محافظات الجنوب، ومواصلة مواجهة القوات الحوثية في العديد من مناطق التماس بين الشمال والجنوب حتى تحرير الساحل الغربي والوصول إلى مشارف مدينة الحديدة الساحلية الشمالية. • لقد مثل الإعلان عن قيام المجلس الانتقالي الجنوبي لحظة نوعية في مسار القضية الجنوبية فصار اليوم لدى الجنوبيين من يمثلهم أمام المجتمع الإقليمي والدولي وقد استطاع المجلس خلال فترة قصيرة أن يبني منظومة سياسية متكاملة تبدأ من هيئة الرئاسة إلى الهيئات المحلية في المحافظات والمديريات والمراكز والأحياء، وتمتلك هيئات مركزية متعددة ، سياسية وتنفيذية مع نواة لهيئة تشريعية ممثلة في الجمعية الوطنية الجنوبية، تمثل كل محافظة ومديرية ومركز ومدينة. • كما تمكن المجلس الانتقالي أن يوصل صوت الجنوبيين إلى الدول الشقيقة والصديقة وإلى المنظمات الدولية والإقليمية وأن ينال احترام كل من يتعامل معهم. ففي الزيارات التي قام بها اللواء عيدروس الزبيدي رئيس المجلس إلى كل من بريطانيا وروسيا، قوبلت الأطروحات والأحاديث والمناقشات التي أجراها الرئيس والوفد المرافق له مع ممثلي السلطات الرسمية والسياسيين والأكاديميين وممثلي الأحزاب والبرلمانات ووسائل الإعلام بتفهم كبير من قبل هؤلاء، بل وكشفت لهم الكثير من التفاصيل التي كان البعض يجهلها إما بفعل الضخ الإعلامي الموتور والمغشوش للسلطات الرسمية وإما بفعل الفهم الجزئي للقضية الجنوبية من قبل أولائك، وقد فتحت تلك الزيارات آفاق واسعة للعمل المشترك مع المزيد من الشركاء الدوليين، وينطبق الأمر على اللقاءات التي عقدها رئيس المجلس ومرافقوه مع عدد من سفراء الدول العظمى وبعض الدول العربية في مدينة الرياض على هامش اللقاءات التشاورية في الرياض بشأن تطبيق اتفاق الرياض وآلية التسريع. • وإلى جانب ذلك تمكنت ممثليات المجلس الانتقالي في بلدان أوروبا وأمريكا (بلدان الاتحاد الأوروبي، روسيا، بريطانيا، الولايات المتحدة الأمريكية وكندا) من إيصال الصوت الجنوبي إلى صناع القرار في تلك البلدان جنبا إلى جنب مع المنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان وحماية الحريات العامة. • وقد جاءت التطورات الأخيرة متمثلة باتفاق الرياض وتشكيل حكومة المناصفة (الجنوبية-الشمالية) لتعبر عن نجاح المجلس الانتقالي بالوسائل السياسية في إيصال القضية الجنوبية إلى مستوى الشراكة الإقليمية ، كخطوة على طريق طويل بدأ بالتململات الشعبية العشوائية والعفوية، والمرتبكة بعيد 7/7/1994م وسيستمر حتى إعلان الدولة الجنوبية كاملة السيادة على كل التراب الجنوبي بحدود 21 مايو 1990م. (يتبع القسم الثاني)