الموت خطف الفنان جعفر حسن
كالصواعق المتتالية تتوالى أخبار حصاد الفايروس البغيض وهو يصطاد الخيار من ذوي الحضور الإنساني والشعبي والإبداعي والأخلاقي، ويبدو أن منشار الموت لم يشبع بعد من حصد ضحاياه من بني البشر على مستوى الكوكب. قبل يومين كان الخبر المؤلم الذي نقل لنا نبأ وفاة الفنان العراقي ـ العدني جعفر حسن، الذي اشتهر خلال ذروة فترات عطائه الفني منذ منتصف السبعينات حتى منتصف التسعينات من القرن الماضي متألقاً في عدن المحبة والسلام والانفتاح. تقول الأخبار أن الفنان الكبير جعفر حسن تعرض للإصابة بالفيروس في مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق، وقد توفى في مستشفى أربيل، بعد حوالي ستة عقود من العطاء الفني الجميل تجاوز فيها حدود العراق واليمن ليصل إلى بقاع شتى من العالم. عن رحلته القاسية من العراق إلى عدن يقول الفنان المرحوم جعفر: اضطررت إلى السفر من بغداد إلى جنوب العراق ومن هناك إلى عدن، ومعظم المسافات قطعتها براً. يقول أن سمعة عدن قد وصلت إليه منذ وقت مبكر، ويعيد سبب اختياره لعدن إلى عاملين أساسيين: الأول ميوله اليساري، المتناغم مع التوجه السياسي في جنوب اليمن الي كان منفتحا على جميع المبدعين والمثقفين المطاردين من بلدانهم بمن فيهم ذوي التوجه السياسي اليساري. الثاني علاقته بأسرة الفنان العميد الفقيد جميل غانم المتخرج من العراق والمتزوج من السيدة إلهام، أخت الفقيد جعفر حسن. وهذان العاملان هما ما أسهما في دفعه لاختيار مدينة عدن والإقامة فيها على مدى عقدين مهمين في حياته الفنية والإنسانية. يقول الفنان الفقيد: في عدن علمت وتعلمت. أما كيف علم؟ فالأمر معروف فيكفي أن نعلم أنه من أسس فرقة أشيد الموسيقية التي برع من بين أعضائها عشرات الفنانين المغنيين والعازفين، والملحنين، وهذه القضية يطول الحديث فيها. لكن السؤال هو كيف تعلم وماذا؟ وكيف لقامة فنية ذائعة الصيت، حتى قبل وصولها إلى عدن أن تتعلم وهي تعلم. يقول الفنان الفقيد: لقد اكتشفت عوالم عديدة من الفن والغناء والتراث والإبداع، في عدن ولحج وأبين وحضرموت وغيرها، واكتشفت أعداداً من الإيقاعات المختلفة والمقامات المميزة، والغزارة الفنية، التي تبرهن على أن هذا لمستوى الرفيع من الفن والغناء والشعر والألحان، إنما هو قادم من موروث حضاري يضرب جذوره في أعماق التاريخ. ربما يكون هذا الكلام بديهياً ومعروفاً بالنسبة لنا نحن أبناء هذا البلد كصورة عامة ومعلومات اعتيادية بعيدةً عن التحليل النقدي والدرس الأكاديمي، لكن تقييم هذا الميراث بعين الناقد الفني، ومعيار الفنان المحترف إنما تبين قيمة أخرى غير تلك التي في وعينا نحن غير المتخصصين، عندما نسعد لسماع أغنيةٍ ما أو إيقاع أو لحن وقد نردده أو نتمايل ونتفاعل معه، فرحا أو حزنا، لكننا لا نستطيع استكشاف الثراء الداخلي الي يحمله هذا النص، أما الفنان المتخصص فإنه يستطيع من خلال ثقافته الأكاديمية ومنظاره التخصصي أن يكتشف الكثير من الدقائق والمزايا والخصائص التي قد تغيب عن عامة الناس، وهذا ما نجح فيه الفقيد جعفر الذي ألف دراسةً حول الفنون في جنوب اليمن، نتمنى أن نراها في مكتباتنا قريبا . جعفر حسن فنان عالمي، يُسمَع صوته في بلدان كثيرة ليس فقط على مستوى الوطن العربي بل وفي دول وأقاليم مختلفة في آسيا وأفريقيا وأوروبا، لكن ما يعنينا هنا هو تجربة الفنان الراحل في عدن، إذ يقول إنه وخلال العشرين عاماً التي أمضاها هناك استطاع أن يبني علاقات ومواقف قربته من الناس وقربت الناس منه، فقد تجول مع فرقة أشيد في المدن والمحافظات، وشارك في الفعاليات الفنية، حتى على مستوى الحارات والأحياء الشعبية في عدن وغير عدن. يقول جعفر حسن "عشت في عدن وما زلت أعيش فيها رغم بعدي عنها، ولهذا قضيت فيها عشرين عاما لم أشعر بالغربة، وحتى أبنا عدن لم يشعروا بأنني غريب بينهم" وأصعب عبارة قالها للمذيع التلفيزيوني البديع زاهي وهبي في برنامجه التلفيزيوني "بيت القصيد" هي أنه أحب عدن وما يزال يحب عدن وقال حرفيا "أنا أحن إلى عدن وأحلم بالعودة إليها وزيارتها في أية فرصة قريبة". لم يتحقق حلم جعفر في زيارة عدن ومعانقة هواءها وبحرها وجبلها وأهلها، فقد منعته الحرب من تحقيق هذا الحلم، وكان الموت أسرع في قطع طريقه من الوصول إلى حلمه. جعفر حسن قامة فنية كبيرة أعطت العالم الكثير وغادرت هذا العالم ربما دون أن تنال ما تستحق من الإنصاف ورد الجميل، وكما يقول، لقد حوصرت في زمن الديكتاتوريات بسبب توجهي السياسي اليساري، وبسبب الأغنية السياسية التي لا تروق للحكام، وعندما جاء الانفتاح تحول الفن في معظمه إلى سلعة تجارية يطغي عليها السطحي والخالي من المضمون والتفاهات التي تخاطب الشهوات والغرائز ولا تقدم شيئا ذا قيمة معرفية وأخلاقية وتربوية وفنية حقيقية للناس. جعفر حسن من المبدعين والسياسيين القلائل الذين احتضنتهم عدن والنظام الوطني في الجنوب، فاحتفظ برد الجميل ومات وهو يكن الحب والتقدير لعدن وللشعب الجنوبي، ومثله قلة قليلة ممن تمسكوا بها الموقف الأخلاقي قبل السياسي، بينما لاحظنا العشرات ممن رضعوا من حليب عدن ودولتها الجنوبية، ينتقلون بمجرد هبة الريح إلى الطرف الآخر، حيثما توجد المصلحة المادية الزائلة. رحم الله الفنان الكبير جعفر حسن، وعزاؤنا لكل أهله وذويه وجميع محبيه ولكل تلاميذ المدرسة الفنية التي مثلها وما يزال صوته المنتشر الباقي أبداً يمثلها. ولروحه السلام والسكينة والخلود في عوالم الملكوت الإلهي الأبدي.