اه «البلدة» والمهرجان!
للمؤرخ عبد الرحمن عبد الكريم الملاحي (1936-2014)، رحمه الله، كتيب عن (نجم البلدة بين المفهوم الفلكي.. والمدلول الثقافي) وغيره من الباحثين والرواة ابحاثًا وكتابات لخصوا فيها هذه الظاهرة الفلكية وخصائصها النادرة وتتبعوا ما يشهده موسمها - منذ أزمان بعيدة - من أنشطة اجتماعية واقتصادية وما يرافقها من تفاعلات حياتية ومباهج شعبية ومعتقدات لفوائد صحية. وفي عهد محافظ حضرموت الأسبق عبدالقادر علي هلال - رحمه الله - برزت فكرة أحياء مهرجان سياحي للاستفادة من المزايا التي يوفرها موسم «البلدة» لعل أهمها اقبال الزوار والسياح المحليين من مناطق شتي للاستمتاع باجوائه والاغتسال بمياه البحر الباردة.. وكانت هذه النظرة لها بعد اقتصادي بدرجة رئيسة من خلال استثمار أفضل لتشغيل النشاط السياحي وتوفير فرص عمل وعائدات على المنطقة في ظل اتساع مشاريع الاستثمار السياحي للقطاع الخاص وتوجه جاد واهتمام مستمر للسلطة المحلية - حينها - ببناء المنشاءات والمرافق كخور المكلا والحدائق والمتنفسات العامة مما ساعد يومها على تحريك عملية الجذب السياحي وضاعف من إقبال الزوار من مختلف مناطق البلاد. في خريف 2004م دشن أول مهرجان سياحي تزامن مع موسم «البلدة» تحت شعار «بعد المكلا شاق»، وكان لــ «هلال» بعد نظر وهدف استراتيجي ثاقب لنقل هذا المهرجان من محلي إلى إقليمي على غرار مهرجانات في بعض دول الجوار، وأسس لذلك إدارة مستقلة فيها كوادر ذات اهتمام واختصاص سياحي وإداري ومالي .. فاتسعت الأفكار، وتعددت الأمنيات، ومن عام لآخر طرأت متغيرات وحشدت إمكانيات ضخمة لتحقيق الأهداف المرجوءة لكن مشاريع الفيد والتكسب والتوظيف السياسي البليد سرعان ما بدد ذلك، وجعل الأحلام تتبخر فعصف بالمهرجان وعرقل أعوامًا بعد ان تبيّن للسلطة المحلية بأنه مجرد عبء وإنفاق مالي دون عوائد، فاتخذت في عهد محافظها الأسبق الشاب خالد سعيد الديني - على ما اذكر - قرارًا شجاعًا بإيقاف الإنفاق على المهرجان، كما أن الحكومة نكثت بوعودها في اعتماده أسوة بالمهرجانات المتعددة الأسماء. تبدلت الأحوال وبعد توقف اضطراري عاد من جديد المهرجان للظهور ربما استدعته حاجة عودة الروح لمدينة المكلا بعد اختناق عام بائس حالك السواد ، لكنه ظل كما هو عبارة عن «مقاولة» يافطات، وخرق، وحفلات، ومسابقات دون تسويق سياحي حقيقي أو جني عوائد اقتصادية كما رسم له. وجاءت هذا العام «البلدة» المحتفي بها شعبيًا في ظروف متردية ومنغصات كثيرة، فصدحت دعوات علنية بإرجاء الإنفاق المالي - اي كان مصدره - على المهرجان، بل إيقافه لدواعي الانكسار والضيق الذي سكن في نفوس عامة الناس بسبب الانهيار المستمر والمخيف لمستوى المعيشة وارتفاع الأسعار وهبوط سحيق للعملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية وأشياء أخرى إلا أن المنظمين للمهرجان مضوا به من غير مراعاة لمشاعر الناس، وكأن موسم «البلدة» من غير «حفلة» ولا حاجة ، وهم على معرفة ويقين بأنه غير ذلك، فـ «البلدة» ستبقى بمهرجان أو بدونه حية ومرتبطة بالناس وحياتهم، وأن البحر مقصدًا ومكانًا يؤمون إليه، فهي عادات وتقاليد متوارثة.. والسؤال هنا : لماذا الإصرار العجيب، وما هي المصلحة من السير في مهرجان للترفيهية والرقص في ظل انتشار شبح الجوع والفاقة والحرمان.