الاعتذار للبردوني..
ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي؟ مليحة عاشقاها: السل والجرب تتعاقب الأيام والسنوات، ويظل شاعر اليمن عبدالله البردوني ثابتاً في مكانه لا يتغير وكأنه حفر نفسه وقصائده على سفح جبل من جبال صنعاء العاليات، على امتداد العقود حاول الكثيرون إفشال البردوني ونبوءاته وحتى حقائق قصائده الدامغة، لم ينجح أحد. ولن ينجح أحد في تلك المهمة، فالبردوني لم يكن ضريراً، بل مبصراً بعقله الواقع اليمني بكل محتوياته. صنعاء لن تخرج من طبيعتها فهي ابنة التقاليد العريقة، بل العريقة والموغلة في القدم لبدايات البشر على الأرض، فكل ما حول صنعاء قديم وعريق وعتيق وله خصوصيات لا يجب اجتيازها تحت رغبة الجموح المعاصرة عند كل جيل من الأجيال. فلا الناصرية استطاعت، ولا الجمهورية نجحت، ولا الملكية عرفت كيف تتحول تلك البلاد من زمن القبائل إلى زمن الدولة. عندما اهتزت اليمن بعد وفاة كهلها عبدالله بن حسين الأحمر توثب أبناؤه للقفز إلى عرش الحكم، لكنهم اصطدموا براقص يجيد الرقص على رؤوس الثعابين، صراع أجنحة السلطة في بلد كاليمن له امتداد يصل إلى أكثر من ألف وأربعمائة عام، أي منذ نشأ المذهب الزيدي في القرن الهجري الثاني، فهذا الصراع يعد الأطول منذ البعثة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. لليمن تقاليده التي أكدت كل المحاولات الجادة والمخلصة لتغييرها لعل وعسى يخرج اليمن من القرون الأولى للقرن العشرين على الأقل، وليس للقرن الحادي والعشرين، تلك التقاليد تكبل اليمنيين وتبقيهم في دائرة من الصعب الخروج منها، فهي دائرة تحوي المذهب والقبيلة وتمزج الارتباط بينهما، فلا يمكن كسر معادلة من دون عنصر ثالث يلغي المزيج الكيميائي المكون لليمن، ومشكلة العنصر الثالث أنه يجب أن يتشكل من مواد اليمن الداخلية، وهو غير المتاح قبلياً ومذهبياً وعرفياً أيضاً. لطالما حمل رأي الأستاذ محمد حسنين هيكل في سردياته المتأخرة أن المصريين كان عليهم دراسة تجربتهم في اليمن لتكون مفتاحاً للآخرين لينظروا لتلك البلاد. المصريون كغيرهم من الشعوب والأمم غادروا اليمن بمشاعر الإحباط واليأس، فكل الآمال والأمنيات بمساعدة اليمنيين لكسر قيود القبيلة وتقاليدها والدخول للزمن التالي فشلت تحت مزاوجات اللامنطق، لكنها مزاوجات تبقي اليمن كما يريده أبناؤه وبطريقتهم ووفقاً لتقاليدهم ومورثاتهم. لا يحتاج اليمن لمبعوث أممي يحمل حقائبه باحثاً عن مفتاح اليمن بين أكوام من السنوات اليمنية التي صنعت هذا الواقع المعاصر، فلم يجد الأخضر الإبراهيمي عام 1994 كأول مبعوث حفاوة استقبال وخيبة وداع كما وجد أسلافه من ورائه. اليمن ليس بحاجة لمبعوث سياسي، بل لمبعوث نفسي ينصت للتاريخ ولامتزاج الحضارات والشعوب ولثقافة صنعتها الجبال القاسية. اليمن عاش مع نفسه ومع حاله القرون المتوالية، فصنع ذاته ونفوره من جزيرة العرب، فتعلق بالأحباش والأتراك والفرس ونفر من محيطه العربي، في خصوصية تتطلب دراسة استقصائية علمية. كانت السنوات الإيرانية الحاكمة لليمن مع انقلاب «الحوثي» في سبتمبر 2014 كفيلة لسكان الأرض ليتعرفوا على تلك البلاد التي رآها الضرير البردوني بقلبه المنير وعقله الصادق. وحده البردوني أحب اليمن فعرف بواطنها، فهي بلاد معشوقة للسل والجرب ولا يمكن علاجها بالسياسة والحرب. معادلة استثنائية كشفت أن خريجاً من جامعات أميركا يمكن أن يعود لليمن وينخرط في قوة عقائدية ليس لشيء، بل لأن قبيلته ذهبت، حملت بنادقها لتخوض معركة القبائل الأولى، لذلك لابد للاعتذار للبردوني، فلقد أخطأ الجميع بعدم تصديقه ما قال عن محبوبته اليمانية