دعوة لتفعيل العلاقات العربية ـ الأفريقية
في فترة النضال من أجل الاستقلال والتحرر من حقبة الاستعمار التي سيطر فيها عدد من الدول الغربية كفرنسا وبريطانيا وبلجيكا وهولندا على مناطق شاسعة في المحيطين العربي والأفريقي، كانت روابط العلاقات العربية والأفريقية متحدة في أهدافها وتطلعاتها، ليس فقط على مستوى العلاقات بين الدول بل أيضاً على المستوى الشعبي. والمفارقة أنه في نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين تراجع زخم العلاقات العربية الأفريقية، وأصبح كل منهما يتوجه وينمي علاقاته بشكل مطرد مع القوى الدولية التي كانت بالأمس تشكل عنصر تضامن عربي أفريقي لمواجهتها؟ ليس هذا هو التطور الجديد في الأمر، بل ما هو أخطر من ذلك ما يحدث الآن من أزمة العلاقات المصرية والسودانية في مواجهة إثيوبيا في قضية «سد النهضة» وأزمة المياه بين البلدان الثلاثة. ويحدث هذا في الوقت الذي نرى فيه مدى التهافت على الدول الأفريقية من قبل قوى كبرى مثل الولايات المتحدة، والصين والهند وتركيا وعدد من دول أخرى لم تكن مهتمة بأفريقيا بدرجة كبيرة كما هو حاصل الآن، ما يستدعي من الدول العربية وقفة جادة في البحث في أسلوب وإمكانية إعادة تفعيل العلاقات العربية الأفريقية، بل وابتكار أدوات جديدة من أجل تأسيس محور عربي أفريقي يجعل من الأمن القومي العربي جزءاً من وحدة المصير المشترك. هناك عوامل يمكن أن تساعد وتدعم هذا التوجه نحو القارة الأفريقية: - هناك دول عربية توجد في المحيطين العربي والأفريقي ولديهم عضوية مشتركة في كلا التنظيمين الإقليميين في جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي (الذي حل محل منظمة الوحدة الأفريقية) وتمثل دول من أصل عضواً في الاتحاد الأفريقي، تجمعها ببعضها الجغرافيا، والبحر الأحمر، ونهر النيل. ـ أهمية الدور الذي لعبه بعض رموز الزعامات العربية بتأسيس منظمة الوحدة الأفريقية في الستينات (جمال عبد الناصر)، والاتحاد الأفريقي (معمر القذافي) وحركة عدم الانحياز والذي كان من زعمائها في أفريقيا جمال عبد الناصر وكوامي نكروما رئيس غانا، وما شكلته تلك الزعامات من نماذج ومرجعيات تاريخية في العالمين العربي والأفريقي، وفي العالم الثالث بصفة عامة. - الهجرات العربية إلى بعض الدول الأفريقية واختلاطهم مع السكان المحليين، خصوصاً على مستوى هجرات الحضارمة واليمنيين في القرن الأفريقي في إثيوبيا، وكينيا، وإريتريا، والصومال، وجيبوتي، وجزر القمر والدول الثلاث الأخيرة تتميز بعضويتها المشتركة في جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي، فضلاً عن دور الإسلام ووجود قطاع واسع من شعوب القارة الأفريقية في غالبيتهم مسلمون مثل نيجيريا، وتشاد، والسنغال… إلخ. - المساعدات التنموية والاستثمارات العربية خصوصاً بعد ارتفاع أسعار النفط في - المقدمة عبر صناديق التنمية للدول العربية النفطية الخليجية، أو عبر آليات البنك الإسلامي للتنمية لعبت دوراً كبيراً في تعزيز العلاقات بين الدول العربية والأفريقية، إضافة إلى مساهمة القطاع الخاص في تأسيس بنوك ومؤسسات مالية مشتركة مثل البنك العربي الأفريقي الدولي، والمجلس الأعلى للاقتصاد العربي الأفريقي الذي تشكل مؤخراً في السعودية في يناير (كانون الثاني) . وأدى موقف الدول العربية ضد سياسة «الأبارتايد لجنوب أفريقيا» إلى توطيد العلاقات العربية الأفريقية بعد موجة حركة استقلال عدد كبير من الدول الأفريقية بفضل ما مثلته من كتلة تصويت كبيرة دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي كان يطلق عليها بعض الكتاب الغربيين الأغلبية الأتوماتيكية بفضل ذلك العدد، أسهم ذلك في تبني قرارات داعمة للقضية الفلسطينية على مستوى الأمم المتحدة كقرار الجمعية العامة رقم ، الذي اعتمد في نوفمبر (تشرين الثاني) بتصويت دولة بنعم مقابل بلا (وامتناع عضواً عن التصويت) والذي اعتبر «أن الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري «مطالباً جميع دول العالم بمقاومة الآيديولوجية الصهيونية التي حسب القرار تشكل خطراً على الأمن والسلم العالميين. وألغي بعد ذلك القرار في ديسمبر (كانون الأول) بفعل تنامي النفوذ الإسرائيلي في القارة السمراء، وتوجه العرب بنهاية حرب الخليج الثانية إلى المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام بين العرب والإسرائيليين جعل البعض من الدول العربية يعتقد أن الصراع العربي الإسرائيلي في طريقه إلى الحل، ولن تعود هناك حاجة إلى كتلة التصويت للدول الأفريقية في المحافل الدولية! وهذا تحديداً في الوقت الذي قامت فيه دول إقليمية ولاعبون جدد مثل تركيا والصين بمنافسة القوى العظمى التقليدية في منافستهم في مناطق نفوذهم في أفريقيا. في نشرت تركيا وثيقة بعنوان «استراتيجية من أجل تنمية العلاقات الاقتصادية بأفريقيا»، ففي حين كان حجم التبادل التجاري بين تركيا وأفريقيا في عام لا يتجاوز 5.4 مليار دولار بلغ في أكثر من مليار دولار. وفي مجال برامج المساعدات التنموية وضعت وكالة التعاون والتنمية التركية (التيكا) برامج طموحة، لقطاعات الزراعة، والصحة، والتعليم، والمياه والتأهيل المهني، وقد حظيت دول القرن الأفريقي (جيبوتي، إثيوبيا، كينيا، وأوغندا ببرامج التنمية الزراعية التي أطلقتها وكالة «تيكا» التي سبقت الإشارة إليها. ويرى بعض المراقبين الغربيين أن اتجاه تركيا في إعادة بناء الدولة في بعض المجتمعات التي أنهكتها الحروب الأهلية مثل الصومال خلق لديها رأسمالاً وفرصة، خصوصاً في الدول ذات الأغلبية الإسلامية، ومثلما أشار أحد الكتاب من روما في مطبوعة «مينا نيوز» في أبريل (نيسان) الماضي إلى أن استراتيجية الرئيس إردوغان خططت للتغلغل في مناطق النفوذ الفرنسي في أفريقيا والتوسع في اتجاه المستعمرات السابقة للبرتغال وإيطاليا في القرن الأفريقي، ومن آليات الحضور في تلك الدول لم تقتصر على المشاريع التنموية فحسب، بل امتدت أيضاً إلى مجالي الثقافة والتعليم بتقديم منح للدراسة في تركيا أو عبر تدريس اللغة التركية في جامعات بعض الدول مثل جامعة رواندا. وتوجت تركيا علاقتها بالقارة السمراء بقبولها في مرحلة أولى عضواً مراقباً في اجتماعات الاتحاد الأفريقي، ثم في عقد لقاءات قمة مع قادة أفريقيا بدءاً من عام . وقد استغلت الصين من جانبها للتغلغل في أفريقيا سردية أنها هي مثل الدول الأفريقية والدول النامية بصفة عامة، وقفت ضد الاستعمار الغربي بتعاطفها مع حركات التحرر في مرحلة النضال من أجل الاستقلال، وأنها مع وجوب احترام السيادة للدول المستقلة، والأهم من كل ذلك إظهار أنها باتت قوة اقتصادية كبرى تنافس اقتصاديات الدول الدول الصناعية الكبرى في العالم، ومن هذا المنطلق استمالت عدداً كبيراً من الدول الأفريقية، فالصين أصبحت الأولى كشريك تجاري، والأولى في حجم التمويل الثنائي لعدد من الدول الأفريقية، بينما كما أشار إليه أحد كتاب صحيفة الـ (لوموند) الفرنسية فإن إسهامات الاستثمار للصين في أفريقيا متواضعة ولا تحتل إلا المرتبة الخامسة كمصدر للسلاح وربما تصبح غداً الأولى التي ستزود القارة بلقاح (كوفيد - ) بين بقية دول العالم. إزاء هذا التهافت الدولي من تركيا إلى الصين كلاعبين جديدين بجانب اللاعبين التقليديين ماذا على الدول العربية فعله لإعادة تفعيل علاقاتها بالقارة السمراء؟ وماذا بإمكان دول الخليج العربية بصفة عامة والمملكة العربية السعودية بصفة خاصة أن تفعل لتحتفظ بعلاقات مميزة مع دول القارة السمراء؟ وهل يمكن القول إن أزمة سد النهضة قد تعقد أكثر العلاقات العربية الأفريقية أم بالعكس بالإمكان من خلال هذه القضية بناء أسس علاقات جديدة بين العالم العربي وأفريقيا السمراء؟ وللحديث بقية... مقالة الدكتور محمد علي السقاف في صحيفة الشرق الاوسط بتاريخ ٢٢ يونيو ٢٠٢١